في انتخابات العام 2010، وبعد أن اتضح للجميع أن القائمة العراقية بقيادة أياد علاوي هي الفائزة بالعدد الأكبر من المقاعد، عمد رئيس مجلس الوزراء، المالكي حينها، إلى استصدار قرار مسيس من المحكمة الاتحادية لإقصاء القائمة العراقية عن تشكيل الحكومة؛ ففي يوم 21 آذار/ مارس توجه المالكي بطلب إلى المحكمة الاتحادية لتفسير المادة 76 أولا من الدستور العراقي والتي تنص على أن يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة الأكثر عددا لتشكيل الحكومة، وقد ردت المحكمة يوم 25 آذار/ مارس بأن الكتلة الأكثر عددا ليست هي الكتلة الفائزة في الانتخابات، بل الكتلة التي تتكون بعد الانتخابات من خلال قائمة انتخابية واحدة، او من خلال قائمتين أو أكثر من القوائم الانتخابية وأصبح عدد مقاعدها في الجلسة الأولى الأكثر عددا من بقية الكتل (القرار 55/ اتحادية/ 2010).
وقد حظي هذا القرار المسيس، والذي يعد أسرع قرار تتخذه المحكمة الاتحادية، بمباركة صريحة من القوى الشيعية الأساسية يومها وهي: دولة القانون والصدريون والمجلس الأعلى، التي شكلت «التحالف الوطني العراقي» يوم 4 أيار/ مايو، أي بعد تسعة أيام فقط من إعلان نتائج الانتخابات من أجل ضمان بقاء المنصب حكرا على الفاعلين السياسيين الشيعة «الأنقياء» فقط، مع أنهم لم يتفقوا، يومها، على اسم مرشحهم لرئاسة مجلس الوزراء، وكان على العراقيين انتظار أربعة أشهر كاملة للاتفاق على مرشح لهذا المنصب!
يومها تواطأ الجميع لانتهاك احكام الدستور العراقي الصريحة التي تتحدث عن انتخاب رئيس مجلس النواب ونائبيه في الجلسة الأولى، فقد عقدت الجلسة الأولى لمجلس النواب في 14 حزيران/ يونيو 2010 وبقيت مفتوحة على مدى أكثر من أربعة أشهر.
في هذا السياق عمد 4 من الناشطين إلى التقدم بطعن في المحكمة الاتحادية ضد هذا الاجراء، لكن المحكمة الاتحادية لم ترد بسرعة هذه المرة كما فعلت عند تفسيرها لعبارة الكتلة الأكثر عددا، بل انتظرت طويلا ولم تصدر قرارها القاضي بعدم دستورية الجلسة المفتوحة إلا في 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2010، أي بعد 4 أشهر و10 أيام كاملة! ومع هذا لم تستأنف الجلسة الأولى إلا يوم 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2010، أي بعد 18 يوما كاملا من قرار المحكمة الاتحادية البات والملزم للسلطات كافة، ولم تكن هذه التوقيتات اعتباطية بطبيعة الحال، بل جاءت بعد أن تم الاتفاق على مرشح رئاسة مجلس الوزراء. ويُذكر، يومها، أن فؤاد معصوم رئيس السن لمجلس النواب، برر هذا الانتهاك بقوله، بكل بساطة، إنها ليست بأول قارورة كسرت في الإسلام!
لكن القارورة كسرت مرتين متتاليتين في الأعوام 2014 و2018، حين لم يُنتخب رئيس مجلس النواب ونائباه في الجلسة الأولى، ومن خلال التلاعب باللغة هذه المرة، إذ لم تستخدم مفردة «مفتوحة» بل عدت الجلسة مستمرة، وهو تلاعب واضح بقرار المحكمة الاتحادية «البات والملزم للسلطات كافة»، كما هو مفترض! وكسرت قارورة أخرى في العام 2018 حين لم يعلنوا الكتلة الأكثر عددا من الأصل، فقد تواطأ رئيس الجمهورية السيد برهم صالح، حامي الدستور، كما بقية القوى السياسية، مع صفقة تحالفي سائرون والفتح، وكلفوا السيد عادل عبد المهدي بتشكيل المحكمة دون إعلان الكتلة الأكثر عددا التي يشترطها الدستور، وكانت المفارقة أن حضر رئيس المحكمة الاتحادية نفسه ليشهد وقائع هذا التكليف المنتهك للدستور، فليس مهما هنا أن يتم انتهاك الدستور من عدمه، فلا احد يحترم الدستور او القانون في العراق من الأصل، ما دام هذا الانتهاك يحظى بتواطؤ جماعي!
اليوم، أصدرت المحكمة الاتحادية قرارا جديدا يتعلق برد طعنين مقدمين بشأن عدم دستورية الجلسة الأولى لمجلس النواب العراقي التي انعقدت يوم 9 يناير 2022، وأفضت إلى انتخاب رئيس مجلس النواب ونائبيه، وقد تضمن هذا القرار العبارة الآتية: «إن الغاية الوحيدة من الجلسة الأولى التي يترأسها الأكبر سنا هي تأدية اليمين الدستورية وانتخاب رئيس المجلس ثم انتخاب نائب أول ونائب ثان له». وهذا النص ينقض تماما قرار المحكمة الاتحادية السابق بشأن تفسير الكتلة الأكثر عددا، والذي أشار إلى أن الكتلة الأكثر عددا هي الكتلة التي «أصبح عدد مقاعدها في الجلسة الأولى الأكثر عددا من بقية الكتل». فما دام ليس من غايات الجلسة الأولى تثبيت الكتلة الأكثر عددا التي سيكلف رئيس الجمهورية مرشحها لتشكيل الحكومة، فكيف يمكن معرفة هذه الكتلة الأكثر عددا؟ وإلى من سيقدم طلب تسجيل الكتلة الأكثر عددا؟ وكيف يمكن التثبت من صحة هذا الرقم؟ ومن سيقوم بذلك ومتى؟ لاسيما أن قرار المحكمة الاتحادية المنقوض قد ربط ذلك بالجلسة الأولى حصرا! وأخيرا كيف سيعرف رئيس الجمهورية الكتلة الأكثر عددا لتكليف مرشحها بتشكيل الحكومة؟
كل هذه الأسئلة لا إجابة لها، وبالتالي ليس ثمة مخرج سوى بالذهاب مرة أخرى للمحكمة الاتحادية من أجل تفسير جديد لحل معضلة الكتلة الأكثر عددا!
في عام 2006 أشرفنا على تحرير كتاب صدر في العراق بعنوان «مراجعات في الدستور العراقي»، وقد شاركنا بورقة كانت بعنوان: «احتكار الدستور ـ سلطة النص وسلطة التأويل»، وكان مما قلناه في هذه الورقة ما يأتي: لقد أراد واضعو الدستور نصا ذا سلطة مطلقة، وكانت الصياغات الملتبسة مقصودة لأنها ستشكل أفقا لسلطة ثانية، ألا وهي « سلطة التأويل «، فكان التباس القصد سياسة معتمدة ومتعمدة في كتابة هذا «النص» إنها إستراتيجية الـwhite negro (الزنجي الأبيض) التي تفتح باب التأويل و التأويل المضاد إلى منتهاه، والعامل الوحيد في حسم «صراع التأويلات» المفتوح في كل لحظة «التباس دستوري» هو علاقات القوة حصرا، وستمثل المحكمة الاتحادية العليا الحلقة الأخيرة في احتكار هذا التأويل وتحولاته، وهذا ما حدث!