قضايا وآراء

هل برّأت الحرب الأفغانية قناة "الجزيرة"؟!

1300x600

تكشف نهاية الحروب أول ما تكشف عنه، حكمة المؤيدين لها أو المعارضين لاندلاعها، ويحتدم جدل النهايات أكثر من جدل البدايات، ففي الأخيرة لا صوت يعلو على صوت المعركة، أما في النهايات فلا صوت يعلو على صوت تحميل المسؤوليات، وتحميل الخطايا والأخطاء التي ستعاني منها البلاد على امتداد زمان ومكان لا يعلمه إلاّ الله. 

مناسبة الحديث بالطبع هو الهزيمة الأمريكية المدوية في أفغانستان، والتي ستتصاغر أمامها لحظة سايغون، في ظل ما نشهده بشكل لحظي من اشتباك وجدال وسط مؤسسات الدولة الأمريكية، واشتباك وجدل بين الدول الغربية المشاركة في العدوان، بحيث تُحمّل كل دولة المسؤوليةَ للأخرى، ولكن في النهاية، للنصر أب واحد، وللهزيمة آباء كُثر.

ما يهمنا في هذا المقال هو قناة "الجزيرة" تحديداً، التي كانت منذ البداية معارضة للحرب، وسط تدفق إعلامي غير مسبوق لدعم الحرب إعلامياً، ربما بقدر تعطش المحافظين الجدد للحرب يومها، وقد يتحمل الإعلام وتحديداً الغربي منه مسؤولية كبيرة في حرب دامت لعقدين من الزمن، فقدت أمريكا فيها أكثر ما لديها، وهي المصداقية أمام حلفائها بغض النظر عن الخسائر البشرية والمادية الضخمة، عكَسَ ذلك نعْتُ الرئيس الأمريكي جو بايدن لأفغانستان بأنها (مقبرة الإمبراطوريات)، وكأنه بذلك يستبطن، قصَدَ أو لم يقصد، أن إمبراطوريته ليست نشازاً عن غيرها من الإمبراطوريات، التي دفنت عظامها فيها، من الإمبراطورية البريطانية والسوفييتية، واليوم الأمريكية.

معاداة الغرب والأمريكيين تحديداً لقناة "الجزيرة" لم تقل عن معاداتهم لحركة طالبان والقاعدة ربما، وهو ما عكسته لاحقاً وثيقة مسربة عن نية بوش ـ بلير قصف المقر الرئيسي للجزيرة، ومن قبلها قصف متعمد لمكتبي القناة في أفغانستان والعراق، واستشهاد مراسلها في بغداد طارق أيوب رحمه الله، وكشفت الغارديان أخيراً عن مساعي بلير لإقناع أمير قطر يومها بتخفيف التغطية في أفغانستان، لكنه لم يلق قبولاً قطرياً، فسعى وزير الخارجية الأمريكي كولن باول يومها إلى فرض رقابة على القناة، لكن كل تلك الجهود باءت بالفشل، وشكلت دعاية جيدة للقناة، ما دام كل ما يعارضه الأمريكيون تراه الشعوب صدقاً وعدلاً.

عارضت قناة "الجزيرة" الحرب، فانعكس في تغطيتها إن كان من حيث الجرائم التي ارتكبتها أمريكا وحلفاؤها في أفغانستان، ولا أدلّ على ذلك من قصف المدنيين، وخنق المعارضين في حاويات، على أيدي أمير الحرب الجنرال عبد الرشيد دوستم، حيث وصل عددهم إلى أكثر من ثمانية آلاف ماتوا خنقاً داخل الحاويات، وهناك المجازر التي ارتكبت في قلعة جنكي بإشراف دوستم ومليشياته، وقصص أخرى قد تتكشف لاحقاً ربما، بيد أنَّ قناة "الجزيرة" ظلت تعكس الرأي والرأي الآخر، لاعبةً دور الوسيط المتنقل بين غرف عمليات طرفي الحرب الأمريكي، والطالباني والقاعدة، وإن كان صوت المعركة وطبول الحرب أقوى من كاميرات "الجزيرة" وميكروفوناتها، وربما بدت "الجزيرة" صوتاً في البرية، ووردة صدق وحقيقة في صحراء إعلامية قاحلة، فقد كانت غالبية وسائل الإعلام الغربية منساقةً وراء الحملة العسكرية، وقبل الصحافيون الغربيون الالتحاق بالجيوش الغربية، راضين بالخضوع للرقابة الإعلامية العسكرية، فلم يصدر تقرير إعلامي دون المصادقة عليها من الرقيب العسكري الأميركي والغربي.

أظهرت الدراسات الغربية الأخيرة أن معارضي الحرب في العراق لم يحظوا سوى بـ 2% من التغطية على القنوات الغربية، في حين حصد متعطشو الحرب يومها نسبة 98% من التغطية، وكل من عاش تلك الأيام رأى تدفق الملايين من المعارضين على شوارع العواصم العالمية الأمريكية والغربية، يهتفون ضد الحرب ويطالبون بمنعها، ومع هذا لم يحظَ هؤلاء بسوى ظهور لا يتعدى 2%، وللأسف فإن إدمان بعض وسائل الإعلام على هذه السياسة لا يزال مستمراً، فبالأمس كنت أشاهد مقابلة لمذيعة غربية مع رئيس أركان الجيش البريطاني الجنرال نيك كارتر، وهي تصر عليه بالسؤال: "كم امرأة مغتصبة تحتاجون أن تروا في كابل لتتحركوا؟"، فيرد عليها الجنرال البريطاني: "أرني الأدلة!".

 

ثم تعود وتسأل ثانية وثالثة، وهو يجيب بالجواب نفسه، وكلنا يعلم أن مسألة الاغتصاب في أفغانستان كذب فاضح، وربما كانت المذيعة التي تتحدث تبعد آلاف الأميال عن أفغانستان، ولم تزر أفغانستان ولم ترَها في حياتها. أما الصورة الثانية فتقرير يبث على قناة أمريكية تلتقي فيه المراسلة قبل أسبوعين من سقوط كابل مع قيادي في تنظيم الدولة (داعش)، وهو يهدد ويتوعد، ثم يبث التقرير بعد يوم واحد على تفجير مطار كابل، وهنا أترك لعقلكم وتفكيركم أن يسرحا في أبعاد ذلك ومراميه.

من سيعوّض قناة "الجزيرة" اليوم بعد أن تبين صدق موقفها المعارض للحرب، بعد أن ندمت عليه الدول الغازية نفسها، واعترف سيد البيت الأبيض بأن البلاد مقبرة الإمبراطوريات!، ومن سيعوّض من اعتقل من مراسليها ومن قتل ومن تمت مضايقته؟ وهل من يقصف بالبي 52، ويستخدم اليورانيوم المنضب، ويضرب بصواريخ كروز وغيرها من آلات الحرب المدمرة، التي قتلت عشرات الآلاف من الأفغان المدنيين، ولا أتحدث عن العسكريين، هم رسل سلام ووئام ومحبة! ويجب أن يحظوا بالاحترام والتقدير والإشادة والتغطيات الإعلامية التي تتناسب مع جرائمهم!،

 

أما نحن الصحافيين المعارضين للحروب، الذين لا نملك سوى الكاميرا والقلم، فشريرون قتلة نؤيد الإرهاب، ومصيرنا ينبغي أن يكون المقابر أو غوانتانامو وأبو غريب وبوكا، وغيرها من سجون الأصلاء أو الوكلاء في سوريا واليمن وليبيا وفلسطين ومصر وغيرها.