ما إن أطفأت الجزائر الحرائق المشتعلة بكثير من مناطقها، وبالأخص منطقة القبائل، بدعم من طائرات أوروبية اختارتها بديلا عن الطائرات المغربية المعروضة عليها، حتى اجتمع مجلس الأمن القومي ليُطلق الشرارة الأولى لحريق أكبر قادم، لا محالة، بين البلدين الجارين ومنطقة الشمال الأفريقي والساحل في عمومها. الشرارة الرسمية لإشعال الحريق سبقها "لعب" منتظم بعيدان ثقاب تمثلت في بيانات "نارية"، خلت من لغة الديبلوماسية التي يفترض في القائمين على وزارة الخارجية الجزائرية التحلي بها.
فمنذ توزيع سفير المملكة المغربية بهيئة الأمم المتحدة لرسالة أظهر من خلالها تناقض الديبلوماسية الجزائرية، التي جعلت من قضية استقلال الصحراء قضيتها الأولى، بدفاعها المستميت لعقود عن حق الشعب "الصحراوي" في تقرير مصيره، وبذلها لأجل ذلك الدعم السياسي والمالي والإعلامي والعسكري لجبهة البوليساريو، في حين تنكر الحق نفسه لمن أسمته الورقة المغربية الشعب "القبائلي"، وهو الذي تصنف الدولة الجزائرية بعضا من مكوناته السياسية منظمات "إرهابية" لا سبيل لمواجهتها غير الاستئصال الجذري، استيقظت لدى جيران المغرب الشرقيين نزعة وطنية ترى في الحديث عن حق تقرير المصير دعوة للانفصال وإثارة النعرات الإثنية والمناطقية.
الدولة الجزائرية لم تجد من رد على تجاهل المغرب لرسالتها المطالبة بتوضيحات بخصوص الموضوع، غير جعل قضية الصحراء الطبق الرئيسي في أي محادثات ثنائية أو مشتركة تعرف مشاركتها. ولعل آخرها كان تصريح وزير الخارجية رمطان لعمامرة، خلال مشاركته في أشغال الاجتماع الوزاري لمجلس السلم والأمن للاتحاد الأفريقي، حيث أكد إنهاء بلاده ترسيم حدودها مع جميع البلدان المجاورة، بما في ذلك ما أسماها "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية"، وشدد بالمناسبة على أهمية الالتزام الصارم بعدم المساس بالحدود الموروثة عن المرحلة الاستعمارية، واعتمادها في تسوية جميع الخلافات المتعلقة بالحدود على المستوى القاري.
ولأن الرواية الجزائرية بدأت تفقد كثيرا من بريقها، بالنظر إلى المبادرات التصالحية المغربية المتواصلة منذ سنوات، وكان آخرها خطاب العاهل المغربي الذي اعتبره البعض "يدا ممدودة" لبناء علاقات ثنائية أساسها الثقة والحوار وحسن الجوار. وبالرغم من أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لم يجد في الدعوة المغربية لبناء علاقات استراتيجية ما يستحق الاهتمام، مفضلا تأكيد أن "المغرب لم يقدم إجابة عن المشكل الظرفي الحالي"، وأن "هناك دبلوماسيا مغربيا قام بتصريح خطير جدا، سحبنا من خلاله سفيرنا في الرباط، وقلنا إننا سنذهب بعيدا، ولكنهم لم يتجاوبوا معنا"، فقد بادر المغرب إلى عرض المساعدة في إطفاء الحرائق التي تلظت بعض المناطق بنيرانها، وهو عرض بقي بلا رد بالرغم من الوضعية الكارثية التي كانت تعيش على وقعها المناطق المتضررة وسكانها. لأجل ذلك، كان لا بد من استدعاء "الكيان الصهيوني" والتذكير بـ "تاريخ المخزن الحافل" في التعاون والتحالف معه ضدا على مصالح القضية الفلسطينية وأهلها.
الأكيد أن الجزائر التقطت الإشارة السريعة لوزير خارجية الاحتلال، خلال زيارته إلى الرباط للافتتاح الرسمي لمكتب الاتصال، حيث تحدث عن مشاركته بعض القلق بشأن الدور الجزائري في المنطقة وتقاربها مع إيران. الأهم في تصريحات يائير لابيد كان حديثه عن أن مباحثات الجانبين تناولت قضية الصحراء. ولعل دخول إسرائيل طرفا مؤيدا لوجهة النظر المغربية بخصوص قضية تراهن عليها الجزائر لمواصلة الضغط على جارها الغربي، يمثل بالنسبة إليها تحولا كبيرا خصوصا مع تسلل الكيان الإسرائيلي إلى منظمة الاتحاد الأفريقي عضوا مراقبا، لن يتوانى عن التأثير في مواقف كثير من الدول الأفريقية التي تربطه بها علاقات بعضها علني وآخر سري.
جملة وزير الخارجية الإسرائيلي أثمرت بيانا جزائريا شديد اللهجة، خُصص في غالبيته للتنديد بالدور الذي يؤديه وزير الخارجية المغربي في الملف، لدرجة اتهامه بكونه "المحرض الحقيقي" على "التصريحات الكاذبة والخبيثة الصادرة عن المغرب بشأن الجزائر ودورها الإقليمي وعلاقاتها مع دولة ثالثة". وحذر البيان من أن يعكس ذلك "رغبة مكتومة من المغرب في جرّ حليفها الشرق أوسطي الجديد، إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر موجهة ضد الجزائر وقيمها ومواقفها الثابتة"، وهو ما يشكل "إنكارا رسميا لليد الممدودة المزعومة، التي تستمر الدعاية المغربية في الترويج لها بشكل مسيء وعبثي"، معتبرا ذلك المسعى "هروبا انتحاريا متهورا".
التصريح الجزائري بالتوجه لإعادة النظر في العلاقة مع المغرب، وإن اعتبره البعض تحصيل حاصل، يندرج في إطار ما شددت عليه البلاد حين استدعائها للسفير المعتمد بالرباط. لكن الوضع الحالي للعلاقات، يجعل من إعادة النظر فيها للأسوأ قنبلة موقوتة قابلة للانفجار، بالنظر للمحاولات المتكررة لتصريف الأزمات الداخلية بالبلدين، خصوصا بالجزائر التي لم يستطع "النظام الجديد" فيها تسويق نفسه معبرا عن الحراك.
ولأن الوقت لم يعد في صالح وجهة النظر الجزائرية، شكلت النيران التي اشتعلت بالمناطق الجزائرية على غرار عدد من الدول الأخرى كتركيا واليونان والجارين تونس والمغرب، مناسبة سانحة للمرور إلى السرعة القصوى، في سبيل خلط الأوراق وربط الأحداث بعضا ببعض، وإن جانبت المنطق السليم وقفزت على الحقائق، حيث تحولت الحرائق الطبيعية إلى "عينة صغيرة من المؤامرة الشاملة والمتكاملة الأركان، التي لطالما حذرنا منها، وأدركنا مبكرا خلفياتها وأبعادها" حسب رئيس الأركان سعيد شنقريحة، أو أعمال إجرامية "ثبت ضلوع الحركتين الإرهابيتين (الماك) و(رشاد) في إشعالها، وكذا تورطهما في اغتيال المرحوم جمال بن سماعين"، كما أورد ذلك بيان الاجتماع الاستثنائي للمجلس الأعلى للأمن، الذي ترأسه الرئيس الجزائري وخصص لـ "تقييم الوضع العام للبلاد عقب الأحداث الأليمة الأخيرة، والأعمال العدائية المتواصلة من طرف المغرب وحليفه الكيان الصهيوني ضد الجزائر".
البيان ذاته أكد أن "منظمة (الماك) تتلقى الدعم والمساعدة من أطراف أجنبية وخاصة المغرب والكيان الصهيوني، حيث تطلبت الأفعال العدائية المتكررة من طرف المغرب ضد الجزائر، إعادة النظر في العلاقات بين البلدين وتكثيف المراقبة الأمنية على الحدود الغربية".
هكذا صارت الحرائق التي اشتعلت في الغابات الجزائرية، وحرق أحد المتطوعين لإخمادها بشبهة المساهمة في إشعالها، عود الثقاب الذي كانت تنتظره المنطقة لتزداد اشتعالا، مع ما تشهده تونس من ردة ديمقراطية تعبد الطريق، بالنظر لارتباطات المحرضين عليها، لتقدم قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي ما فتئ يهدد الجزائر بين الحين والآخر، وهو ما قد يغرق المنطقة في فوضى عارمة تختلط فيها الجيوش النظامية بالمليشيات المسلحة والمنظمات "الجهادية" المنتعشة، بعد فشل عملية براخان ونجاح طالبان في تحقيق "نصر تاريخي" على القوة الغربية الأكبر، بعد عقدين كاملين من الحرب.
التصريح الجزائري بالتوجه لإعادة النظر في العلاقة مع المغرب، وإن اعتبره البعض تحصيل حاصل، يندرج في إطار ما شددت عليه البلاد حين استدعائها للسفير المعتمد بالرباط. لكن الوضع الحالي للعلاقات، يجعل من إعادة النظر فيها للأسوأ قنبلة موقوتة قابلة للانفجار بالنظر للمحاولات المتكررة لتصريف الأزمات الداخلية بالبلدين، خصوصا في الجزائر التي لم يستطع "النظام الجديد" فيها تسويق نفسه معبرا عن الحراك.
ولعل ما يرفع درجة الخطورة، انتقال الحروب الكلامية من دائرة المسؤولين السياسيين وبعض وسائل الإعلام المسبحة بحمد أولياء نعمتها، إلى معارك شعبية أصبح فيها بعض المشاهير والمؤثرين مجرد أدوات، من حيث يدرون أو لا يدرون، لتمرير خطابات مؤدلجة تذكي سعير الحقد والكراهية بين أفراد الشعبين.
لقد أثبتت الأيام أن شعار "خاوة خاوة" التي تلوكه الألسن بشكل مناسباتي مجرد كلام تذروه الرياح. وهي الرياح نفسها التي يمكن أن تجري بما لا تشتهيه سفن البلدين؛ لتغرقهما في أتون حرب تنشدها قوى دولية وإقليمية وتبذل لأجلها السلاح والدعم والمال.
هي القطيعة بديلا عن "اليد الممدودة"، خطوة أولى في درب الإعداد لحرب لا بديل عنها.