لا تغيب الموضوعية عن عديد الكتاب والمفكرين العرب الذين يرون في صعود اليمين الشعبوي في الغرب دليلا يستوجب الإدانة لانتشار العنصرية والفاشية وخطابات الكراهية في مجتمعات ديمقراطية، ويحذرون من التداعيات الخطيرة على معيشة الجاليات العربية والمسلمة هناك.
لا تغيب الموضوعية أيضا عمن يرون في صعود اليمين الشعبوي دليلا مقلقا على أزمة حكومات الغرب الديمقراطية التي لم تعد محل ثقة شعبية واسعة وفقدت نخبها القدرة على إقناع الناس بكون آليات الانتخابات الحرة وتداول السلطة وحكم القانون تمثل مجتمعة الضمانة النهائية لصون مصالحهم الفردية وتحقيق الصالح العام.
ويمكن تفهم مواقف نفر آخر من الكتاب والمفكرين العرب الذين يعولون على ردود أفعال الليبراليين والتقدميين في الولايات المتحدة وأوروبا ويقيمونها كدليل على تمسك المجتمعات الغربية بقيم العدل والحق والحرية والمساواة والتعددية والحدود المفتوحة، قيم الحداثة والديمقراطية والعولمة، وكدليل على التضامن مع من يتهددهم الشعبويون بالطرد كالمهاجرين غير الشرعيين واللاجئين أو بالتعقب كالجاليات العربية والمسلمة. بل أن للتعويل العربي على تضامن ليبراليي الغرب وجماعاته التقدمية المتحلقة حول أفكار اليسار مع الضحايا المحتملين لليمين الشعبوي سياقا فكريا وسياسيا هاما وضروريا يمكن من تفكيك الكثير من مقولات الجهل والانطباعات السلبية المنتشرة بين العرب والمسلمين تجاه المثقفين العلمانيين والمدافعين عن حقوق المثليين جنسيا والمبدعين المطالبين بإطلاق الحريات الفردية، وهؤلاء يتصدرون اليوم المشهد الرافض للعنصرية والشعبوية في الغرب.
لا تغيب الموضوعية هنا أبدا، وليس لدي قيميا وأخلاقيا وفكريا وسياسيا سوى الموافقة الكاملة والتضامن الشامل. غير أن الاكتفاء بتلك التأويلات يحول بيننا وبين إدراك الأزمة الحقيقية والعالمية التي يؤشر إليها صعود اليمين الشعبوي. فمن جهة، تترجم الانتصارات الانتخابية المتتالية للشعبويين معارضة قطاعات شعبية واسعة في الولايات المتحدة وأوروبا للسياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المطبقة منذ عقود والتي تتهم بالتسبب في 1) ظلم الطبقات العاملة وتوسيع الفجوة بينها وبين الطبقات الوسطى والغنية، 2) التورط في مجاراة آليات عولمة رأس المال والاستثمارات والنشاط الاقتصادي على نحو قضى على صناعات كبرى في الغرب وأضاع ملايين فرص العمل على الأمريكيين والأوروبيين ذوي التعليم المتوسط (غير الحاصلين على شهادات جامعية) وغير القادرين على منافسة العمالة الرخيصة في البلدان النامية، 3) فتح حدود الغرب لموجات متلاحقة من الهجرة واللجوء والتعامل المتردد مع ظاهرة الهجرة غير الشرعية والمهاجرين غير الشرعيين ومن ثم تهديد الهوية الاجتماعية والثقافية للمجتمعات وفرض الاغتراب على من يرون أنفسهم «أصحاب البلاد الأصليين» وملاكها الحصريين.
صعود اليمين الشعبوي صرخة مجتمعية لقطاعات شعبية في الغرب ترفض لأسباب متنوعة عمليات التحديث القيمي والثقافي والقانوني
وبينما تغيب الموضوعية عن بعض هذه الاتهامات – فالغرب لم يفتح فتح حدوده خلال العقود الماضية بل أغلقها، والهويات الاجتماعية والثقافية ليست كيانات ثابتة عصية على التغيير ونقية عرقيا (أوهام أمريكا البيضاء وأوروبا الخالية من المسلمين) بل خبرت دوما التبدل والتنوع وتعدد المكونات العرقية، تكتسب الاتهامات المتعلقة بغبن الطبقة العاملة والانفتاح غير المحسوب على آليات العولمة التي يفيد منها فقط الأغنياء والنافذين والقادرين على المنافسة من الشباب الكثير من المصداقية العلمية والفكرية.
غير أن التمايز الذي ألمحه هنا بين موضوعية غائبة ومصداقية حاضرة لا يقلل أبدا من عنفوان معارضة ضحايا العولمة في الغرب لسياسات الحكومات، وصرختهم السياسية والانتخابية بحثا عن التغيير عبر إيصال اليمين الشعبوي إلى مقاعد الحكم أو مقاعد المعارضة المؤثرة وإحلاله محل النخب والأحزاب التقليدية التي فقدت الكثير من فاعليتها، تارة بسبب فضائح الفساد المتكررة وأخرى بفعل آليات العولمة التي تحد من قدراتها على تطبيق سياسات اقتصادية واجتماعية مستقلة عن رغبات المراكز الكبرى لرأس المال والنفوذ.
من جهة ثانية، يجسد صعود اليمين الشعبوي صرخة مجتمعية لقطاعات شعبية في الغرب ترفض لأسباب متنوعة عمليات التحديث القيمي والثقافي والقانوني التي حولت إلى مقبول واعتيادي ومحتفى به بعضا مما كان في الماضي مرفوضا أو محرما أو قاصرا على الهوامش. منذ سبعينيات القرن العشرين، والليبراليون والتقدميون في الولايات المتحدة وأوروبا يرفعون رايات تحديث الأنساق القيمية لإقرار تحييد شامل لدور الدين في الحياة العامة والمساواة الكاملة بين الناس بمعزل عن اختياراتهم الشخصية والانتشاء بالتنوع الثقافي كأساس وحيد للمجتمعات المعاصرة، ودفعوا باتجاه تمرير تعديلات قانونية علمانية الجوهر تنهي اضطهاد الرافضين للقيم الدينية وتضمن مساواة المثليين جنسيا وتصون حقوق الأقليات على أساس قاعدة الاختيار الحر. في المقابل، لم يعد النقاش العام في المجتمعات الغربية يرى في رافضي عمليات التحديث هذه سوى مجموعات مسكونة بفهم رجعي للقيم وللدين أو دعاة عنصرية وكراهية وخوف من الآخر وخوف من الاختيار الحر أو متخلفين عن ركب التقدم وعولمة الحدود والسماوات المفتوحة.
صرخة الموصومين بالرجعية والعنصرية ونشر الخوف هي اليوم الاندفاع نحو تأييد اليمين الشعبوي الذي يجدون بسياسييه وشخصياته العامة وحركاته وأحزابه وإعلامه (البديل) الفضاء الوحيد للتعبير عن تفضيلاتهم والمطالبة باحترامها ومقاومة مصائر الانقراض والاختفاء التي يفرضها عليهم الكثير من الليبراليين والتقدميين وأدواتهم الإعلامية الكثيرة.
أسجل ذلك، على الرغم من قناعتي الأخلاقية والفكرية بالأنساق القيمية الحديثة وبالقوانين العلمانية وبقاعدة الاختيار الحر وبحتمية رفض العنصرية وخطابات الكراهية والخوف. وأغلب الظن أن صعود اليمين الشعبوي غربيا وعالميا لن يتوقف قريبا، ومن ثم وجب البحث عن شروح متكاملة لظاهرة اليمين الشعبوي والابتعاد عن اختزالها ووصم مؤيديها مهما اختلفنا معهم قيميا وأخلاقيا وفكريا وسياسيا.