يذهب اليسار الفلسطيني إلى
انتخابات السلطة الفلسطينية ليؤكِّد فشل مسيرته كمعارضة. فبالنظر لتاريخه، الممتدّ
لأكثر من نصف قرن، يمكننا أن نخلُصَ إلى أنه معارضةٌ لا حول لها ولا قوة. لن
نتحدّث، في هذه المقالة، عن دور اليسار في الانتخابات المرتقَبة، بل عن أهليّته
للعب الدور المفترض للمعارضة سواء في الانتخابات أو غيرها من الاستحقاقات الوطنية.
فالمعارضة اليسارية للسلطة
ليست هواية، ولا غواية، ولا هي مجرّد اختلاف أو خلاف. إنّها رؤية مغايرة، نوعيّا،
لسياسة البلاد، مرفقَة بخطّة وممارسة عملية لتحقيقها. إنها مشروعٌ متكامل لإدارة
الشأن العام. إنها مشروعٌ لسلطة بديلة.
نموذج المعارضة اليسارية
«نختلف معه (عرفات) ولا نختلف عليه». لذلك،
«يجب أن نركّز-نحن المعارضين للقيادة الفلسطينية- على إسقاط نهج الانحراف بدلا من
الجمع كما كان مطروحا ما بين إسقاط النهج ورموزه..» (هاني المصري، السفير
10/11/2015). أعتقد أن هذا المقتطف يلخّص المقاربة المعتمدة من قبل المعارضة
اليسارية، والخروج عنها لم يكن إلا عرَضيّا. لا شكّ في أن التركيز يجب أن يكون على
النهج والفكرة والموقف وليس على الفرد أو مجموعة الأفراد، وذلك تحاشيا للصراعات
الشخصية على حساب المصلحة العامة. كما يجب لفت الانتباه إلى أنّ الاختلاف والخلاف،
لا يشكلان معارضة، إلّا إذا تطوّرا إلى برنامج بديل، وسعي للسلطة.
فالاختلاف موجودٌ داخل الحزب
الواحد، لكن تناميه وتفعيله بممارسة منهجية، قد يشقُّ الطريق لخلاف متعدِّد
الجوانب، وبروز تيّارات متنوّعة، ويفتح الباب لنشوء معارضة أو انشقاق. هذا ما حصل
في العديد من المنظّمات الفلسطينية، بمن فيها الجبهتان الشعبية والديمقراطية، وهذه
الظاهرة عالمية ولا تخصّ الفلسطينيين وحدهم.
يصُحُّ قول «نختلف معه ولا نختلف عليه» في
نطاق القضايا الثانوية فقط، أمّا الرئيسية، فلا. فالعلاقة ما بين أي نهج ورمزه
عضوية، والفصل بينهما صعبٌ، ويصبح مستحيلا إذا بات النهج مكرّسا ورمزُه قائدا.
فالأمر لا يتعلّقُ بخطأ عَرَضِيّ يرتكبه المسؤول، وإنّما بمنظومة متكاملة، وهي
ليست لقيطة؛ فهناك من أنشأها، ونمّاها، ويرعاها بكل ما يملك من قوة ومهارة. إن
السعي لإسقاط أي نهج، والإبقاء على رموزه، وخاصة، في موقع القيادة، كمن يريد أن
يسقط الاستعمار ويبقي على المندوب السامي، أو أن يكافح الفساد ويحافظ على مدير
فاسد. في المقابل، المعارضة ليست صراعا بين أشخاص من منطلق: «قُمْ لأجلس مكانك»،
ولا هي في الوقت ذاته تَمَنُّعا لرغبة في التقرُّب من القيادة وفي مشاركتها
الامتيازات.
إنّ أكثر ما يعني المعارضة
هو البرنامج والسياسة والنهج، وليس الأشخاص. وإذا كان «القائد» لم يرتكب أخطاء
جسيمة ومنهجية فلا مشكلة في بقائه، لكن ما العمل إذا كانت الرموز قد ربطت مصيرها
بمشروع ثَبُتَتْ عدم صلاحيته؟ فقط، عندما تكون المعارضة عاجزة أو غير ناضجة، لا
تطرحُ تغيير القيادة.
بناء على المذكور أعلاه، لا يمكن اعتبار
الجبهتين الشعبية والديمقراطية تمثّلان معارضة جدّية للقيادة الحاكمة. ظهر هذا
جليّا في افتقارهما لرؤية متكاملة لما يجب أن تكون عليه منظمة التحرير،
وفي الحالات النادرة التي
طُرِحَت رؤية كهذه، فإنها لم تكن مقرونة بالعمل الجاد. وما زاد الطين بلة، أنهما
قامتا بأَقْلَمَة نفسهما مع الواقع الذي تنتقدانه، وأصبحتا جزءا منه. فقد تقدّمت
الجبهة الديمقراطية عام 1969 إلى منظمة التحرير بمشروع طالبت فيه بإلغاء الأجهزة
الإدارية البيروقراطية... وتشكيل أجهزة تعتمد على المتطوّعين وطنيّا، وبالعمل على
تحويل جيش التحرير إلى جيش عصابات مقاتلة. رغم هذا، كانت ممارستها عكس ذلك، إذ
إنها انخرطت في جسم المنظمة على علّاته، وسَعَتْ بكل قوتها لنيلِ حصّة في الأجهزة
البيروقراطية والمشاركة في امتيازاتها، وبدل تعديل جيش التحرير، قامت بتحويل
مجموعاتها الفدائية إلى جيش شبه كلاسيكي.
واجه اليسار
امتحانين: أزمة «فتح» بعد اجتياح لبنان. و«أوسلو» الذي تحوّل اتفاقيّات دولية تعطي
«إسرائيل» كلّ ما تريده ولا تراعي الحقوق الفلسطينية الأساسية
حَدَثان شكّلا امتحانا جديّا لكفاءة اليسار
الفلسطيني «المعارض» وفعاليته؛ الأول، أزمة فتح وانشقاقها عام 1983 على خلفية
استحقاقات ما بعد اجتياح إسرائيل للبنان. والثاني، إعلان أوسلو الذي تجاوز كل
«الخطوط الحُمُر» (تعبير يحبّه أهل اليسار)، وأخطر ما فيه، أنه تحوّل إلى
اتفاقيّات دولية تعطي إسرائيل كلّ ما تريده ولا تراعي الحقوق الفلسطينية الأساسية.
رسوب اليسار في الامتحانين كان مدوِّيا على
الرغم من المأزق الداخلي الذي وقعت فيه قيادة فتح. في ظرف كهذا، لو كان اليسار
مستعدّا للقيام بدوره المُفترَض، لاستطاع أن يقودَ تيّارا يجذب إليه مجمل الحركة
الوطنية الفلسطينية، وأن يكون خشبة الخلاص المنتظَرة.
ما يُؤسَف له، أنه قد ظهر
كريشة في مهب الريح، مع أرجحية الميل لمواكبة تيّار القيادة؛ فلا ساهم في إنقاذ
الوضع الفلسطيني، ولا حَفِظَ نفسَه من التدهور. لننظر إلى ما قاله حبش بعد زيارة
عرفات إلى القاهرة وإعادة العلاقة مع نظام كامب ديفيد: «القيادة المشتركة-بين
الجبهتين الشعبية والديمقراطية- تدرك أنه لا يمكن هزيمة نهج الانحراف فعلا، بدون
تجسيد سياسة ثورية، تمثّل النقيض الجذري للسياسة اليمينية، تنطلق من التمسّك
بالمكتسبات التي حققتها م ت ف، وتعمل بدأب وثبات وبنفس صبورة لإحداث تراكمات
نضالية، حتى تستطيع القوى الديمقراطية أن تحتلّ مواقع نافذة في صفوف الثورة
الفلسطينية».
كما أعلن حواتمة «الالتزام
بمحاسبة عرفات على هذه الزيارة»، وأكّدَ على التصحيح السياسي والتنظيمي «الذي
يؤمّن قيادة يومية جماعية أمينة... لا تسمح ولا للحظة جديدة بعمليّات الهيمنة
والتفرُّد» (حبش وحواتمة، كرّاس «القيادة المشتركة ضمانة وحدة منظمة التحرير
وخطّها الوطني»، 1983).
كلامٌ جميل، لكن ماذا
طُبِّقَ منه؟ لا محاسبة، ولا إصلاح، واستمرار الهيمنة والتفرد، وعودة إلى بيت
الطاعة في نهاية الأمر. والأسوأ من هذا، أن الجبهتين لم تتمكّنا من ترتيب بيتهما
الداخلي، ومن الارتقاء بالعلاقة بينهما إلى الوحدة الاندماجية التي كانت هدفا
لهما، وفشلتا في «تجسيد سياسة ثورية، تمثّل النقيض الجذري للسياسة اليمينية» التي
تحدّث عنها حبش، وتلاشت القيادة المشتركة، على الرغم من قول حواتمة إنّ «الساحة
الفلسطينية تشهد تعارضات داخل أكثر من تنظيم فلسطيني، أكثر مما تشهد العلاقة بين
الديمقراطية والشعبية في إطار القيادة المشتركة».
ما أن خفّت حدّة الصراع
الداخلي في فتح، والقبول العام بواقع الانشقاق، مع رجحان الكفّة لصالح قيادة
عرفات، حتى واجه اليسار استحقاقا آخر، عندما شاركت الجبهتان في دورة المجلس الوطني
الخامسة عشرة لإعلان الدولة الفلسطينية. بتأييد هذا الإعلان، وبِرغمِ تسجيل
الشعبية اعتراضها على الاعتراف بقرارَيْ الأمم المتحدة 242 و338، وكذلك نبذ الإرهاب،
تكون الجبهتان قد أعطتا القيادة الحاكمة الغطاء الشرعي للاستمرار بنهجها، لتتفاجآ
بعد ذلك بإعلان أوسلو الذي ارتكز إلى ما تبنّته دورة المجلس هذه.
كان إعلان أوسلو، والاتفاقيّات التي تبعته،
امتحان الفرصة الأخيرة لهذا اليسار، ليبرِّرَ بقاءه على قيد الحياة النضالية. وكان
هذا الامتحان أصعب من سابقيه، لأنه أتى بعد إنشاء حركة حماس التي باتت تتصدّر
واجهة المعارضة، ولأنه يتعلّق بتجسيد كيان فلسطيني فعلي، بأبعاده السياسية
والاجتماعية والاقتصادية، وبتكريس وقائع على الأرض سيكون من الصعب تخطّيها لاحقا.
ما يُؤسَف له، أن القيادة الحاكمة اتّخذت من انتفاضة الحجارة العظيمة مطيّة لتذهب
إلى أوسلو. في الوقت ذاته، انتهز الإخوان المسلمون الانتفاضة لتأسيس حركتهم
الفلسطينية، أما المعارضة اليسارية فلم يشكّل لها هذا الحدث الكبير مناسبة
لانطلاقة جديدة، ودافعا للارتقاء بذاتها إلى مستوى الفعاليّة المؤثرة في مسار
الحركة الوطنية.
وهذا دليلٌ على افتقارها
للمبادرة، وعلى عدم قدرتها على الاستجابة لمتطلّبات المرحلة. ومع مجيء أوسلو ساء
وضع اليسار أكثر، وزادت هامشيته مع بناء السلطة وتنامي قوة حماس، وبرهن للمرة
المئة أنه يعاني من عقم مزمن.
بناء على ما تَقدَّم، ما كان لنا أن نتوقّع أن
تكون مقاربة اليسار الفلسطيني لاستحقاق الانتخابات أقل سوءا من المقاربات السابقة.
فهو ضد أوسلو ويشارك في انتخابات أوسلويّة، ضد السلطة ويعارض ضمن الحدود التي
ترسمها القيادة الحاكمة، يريد مواجهة سياسة اليمين ولا يقوى على أن يتوحّد لإنجاز
المهمة هذه. في الخلاصة، احترف اليسار فنّا بائسا للمعارضة وأدمنَ عليه، وأداؤه في
هذا الاستحقاق لن يكون استثناء.
* باحث وكاتب فلسطيني
تجديد شرعية النظام السياسي والمشروع الوطني الفلسطيني