مقالات مختارة

ليقضي الله أمرا كان مفعولا

1300x600

التدبير الإلهي عجيب وحكيم ودقيق، وحين يشاء الله أمراً ما، فإنما يدبره بآلية معينة لا نفهمها نحن البشر، أو أن المنطق البشري لا يمكن أن يتصوره فضلاً عن أن يقبله، فهكذا هو التدبير الإلهي.

قصة معركة بدر واحدة من أمثلة هذا التدبير الإلهي العجيب، فالمسلمون خرجوا في ثلاثمائة وبضع رجال مع قليل من الأسلحة بهدف اعتراض قافلة تجارية لقريش، ومن جانب آخر يصل خبر خروج المسلمين لاعتراض قافلتهم وشريان حياتهم، فيهب أبو جهل ومن معه من صناديد قريش لحماية تجارتهم واقتصادهم، فيتم تجهيز حوالي ألف رجل ما بين فارس وراجل، وأسلحة وعتاد، ومتطلبات أي حرب، لا يدرون عن عدد المسلمين وتجهيزاتهم.


يتجه المسلمون نحو الموقع الذي ستكون القافلة عليه، ويتجه جيش قريش نحو الموقع الذي قيل إن القافلة بقربه، وفي الحقيقة كان كلا الجيشين يتجه نحو موقع ليس هو المبتغى والهدف، والقافلة في موقع أو إحداثيات مختلفة تماماً، ليجد الطرفان أنفسهما وجهاً لوجه، الأول وهم المسلمون لم يحصلوا على مبتغاهم، لكنهم بدلاً عن ذلك، صاروا أمام واقع جديد لم يتم الترتيب له، والطرف الآخر، وهم قريش تحقق لهم مرادهم دون أي عناء عسكري، ونجت تجارتهم، وبالتالي نجد أن المنطق السليم هاهنا يرى أن الهدف طالما تحقق، فليس من الحكمة خوض مغامرات غير محسوبة العواقب، لكن هنا تتجلى حكمة الله وتدبيره لأمر خارج الحسابات البشرية، لا في حسابات معسكر الإيمان، ولا حسابات معسكر الشرك.


تتضح الأمور أكثر في قوله تعالى (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً).


إنه أمر الحرب التي يريد الله بها أن يفرق بين الحق والباطل، ويعز الله رسوله ومن معه من المؤمنين، ويذل الله الشرك والمشركين. ولو تواعدتم وأهل مكة على موعد تلتقون فيه للقتال، لتخلفتم عن الميعاد المضروب بينكم – كما جاء في تفسير الوسيط للطنطاوي - لأن كل فريق منكم كان سيتهيب الإقدام على صاحبه، ولكن الله تعالى بتدبيره الخفي، شاء أن يجمعكم للقتال على غير ميعاد، ليقضي سبحانه أمراً كان مفعولا، أي ثابتاً في علمه وحكمته، وهو إعزاز الإسلام وأهله، وخذلان الشرك وحزبه.


موسى ونهاية الطغيان


ظهر التدبير الإلهي من ذي قبل مع النبي الكريم موسى - عليه السلام – حيث كان هناك فرعون، وقد تفنن في إهانة بني إسرائيل وسامهم سوء العذاب، يقتّل أبناءهم ويستحيي نساءهم، لكن الله دبر أمراً خارج المنطق البشري، يقوم فرعون بنفسه برعاية أحد أبناء بني إسرائيل في قصره، وهو الذي أمر بقتل كل مولود ذكر في بني إسرائيل، تحسباً لوقوع نبوءة انتشرت في ذاك الزمان، مفادها أن نهاية فرعون على يد رجل من بني إسرائيل.


التدبير الإلهي قضى أن يولد موسى عليه السلام فتقذفه أمه في اليم، لتلتقطه زوجة فرعون وتشفق عليه وتقرر أن تتخذه ولداً، ثم تذهب به إلى القصر وتستأذن فرعون في ذلك، فيوافق! سبحان ربي ما أعظمك!


وهكذا يعيش موسى – عليه السلام – في بيت عدوه، ليشتد عوده بعد حين من الدهر، وتقع المشاهد المعروفة بينه وبين فرعون، ليكون مشهد هلاك الطاغية على يد هذا الصغير الذي رباه ورعاه بيده وماله!


قطز وحضارة الهدم


يتكرر التدبير الإلهي بعد ذلك مع السلطان المملوكي قطز – رحمه الله - فهناك التتار يخسفون بكل شيء أمامهم، يقتلون ويحرقون وينهبون ويأسرون، يصلون إلى دولة خوارزم، فيقتلون رجالها ويسبون نساءها ويأسرون أطفالها، لا شفقة ولا رحمة ولا أخلاق أو نبل محاربين وفرسان تضبط أعمالهم وتصرفاتهم، حضارة همجية، أو حضارة هدم - إن صح التعبير - انطلقت من أعماق الصين لتنطلق نحو الخارج، تنشر ثقافة الموت والهدم والخراب، وتعاند البناء، والصناعة، والحياة والعمران.


يشاء الله ويبدأ التدبير الإلهي بأسر طفل من أطفال ملوك خوارزم، ولكن لا يتم قتله كبقية الأطفال، بل بقدرة قادر، يتم بيعه في دمشق وأكل ثمنه، ولم يدر بخلد أولئك المتوحشين أن هذا الذي باعوه في سوق الرقيق وأكلوا ثمنه اليوم، سيكون هو من يوقفهم عند حدهم في قادم الأيام، وينهي حضارة الموت والهدم التي لازمتهم منذ بزوغ نجمهم.


بعد أن تهدأ الأوضاع ويتنفس العالم الإسلامي الصعداء بزوال المغول، يموت محمود بن ممدود الخوارزمي، أو سيف الدين قطز، بعد أن أمضى عاماً واحداً في الحكم فقط، ما يعادل عشرات الأعوام عند ملوك آخرين. عام واحد فقط، حصد قطز والمسلمون معه، أعظم نتيجة يمكن تصورها، وهي فناء وهلاك التتار، الذين لم يكن يتصور أحد يومها أنهم سيهلكون، أو كيف سيكون هلاكهم وفناؤهم.

 

حتى قال كثيرون بأن قطز إنما حياته كانت مراحل متنوعة من التربية والإعداد الرباني لصناعة قائد يحقق هدفا واحدا محددا مطلوبا منه، وما إن يتحقق الهدف حتى يختفي من المشهد فوراً وبخاتمة لا تتناسب مع رجل عظيم مثل سيف الدين قطز، حيث مات مقتولاً رحمه الله على يد المماليك أنفسهم، لكن هكذا الأقدار وهكذا هي المشيئة والحكمة الإلهية.


نخلص من هذا الحديث:


أن الله ناصر عباده ولو كره الكارهون، وأن هذا الدين "يبلغ ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام، وذلًّا يذل الله به الكفر".


والتدبير الإلهي باق إلى ما يشاء الله أن يبقى، يقلب الله به الموازين المادية، سواء استوعبه منطقنا البشري أم لم يستوعبه، وقصص بدر وموسى وقطز، غيض من فيض. والله غالب على أمره ولو كره الكافرون.

 

(عن صحيفة الشرق القطرية)