لو أردنا اختزال جوهر
السلطة السياسية في تونس قبل الثورة، لقلنا إنه يتمثل في ذلك التطابق الخطير بين
الوطن والحزب والزعيم. وهي ظاهرة أشار إليها المرحوم محمد أركون، باعتبارها قاسما
مشتركا بين أغلب الأنظمة "الجمهورية"، التي استحوذت على السلطة بعد
الاستقلال عن الاحتلال العسكري المباشر.
ولم تشذّ تونس في اللحظة
الدستورية (الأمة التونسية- الحزب الدستوري- الزعيم بورقيبة)، ولا في اللحظة التجمعية
(الأمة التونسية- التجمع الدستوري- صانع التغيير زين العابدين بن علي)، عن هذا
الواقع السلطوي، الذي تُختزل فيه الحياة السياسية أو تكاد في حزب واحد. ويكون الحزب
مجرد أداة دعائية تمارس العنف الرمزي على كل مكونات المشهدين السياسي والمدني
لتكريس سلطة الزعيم (رئيس الحزب والدولة في الآن نفسه) وخدمة مصالح عائلته وجهته،
باعتبارهما النواة الصلبة للحكم حتى إذا لم يكن لأفرادهما مناصب رسمية في أجهزة
الدولة.
النخب التونسية بين المطلب الثوري
والترسبات الاستبداية
رغم نجاح "الثورة
المضادة" في ضرب أية سردية تأسيسية جديدة تقطع مع السردية المؤسسة للسلطة
وشرعيتها في اللحظتين الدستورية والتجمعية، ورغم نجاحها أيضا في وأد كل الرموز
الممكنة للجمهورية الثانية (خاصة شهداء الثورة وأولهم البوعزيزي)، فإنها قد فشلت، حتى
مع المرحوم الباجي قائد السبسي، في صناعة زعامة فردية تكون محل إجماع وطني حقيقي.
الكثير من الأحزاب والمنظمات والهيئات والشخصيات الاعتبارية قد تكون في سياق ما جزءا من الثورة المضادة، بصرف النظر عن قصديتها أو ادّعاءاتها الذاتية
ونحن نستعمل مصطلح
"الثورة المضادة" باحتراز شديد؛ لأنه مصطلح مخاتل وموضوع توظيفات سياسية
وأيديولوجية تقلل من قدرته التفسيرية العلمية؛ ولذلك فإننا نؤكد أن
"الثورة المضادة" ليست هوية ثابتة، ولا فعلا أو خطابا يتخارج قصديا مع
استحقاقات الثورة وانتظارات المؤمنين بها؛ فالكثير من
الأحزاب والمنظمات والهيئات
والشخصيات الاعتبارية قد تكون في سياق ما جزءا من الثورة المضادة، بصرف النظر عن
قصديتها أو ادّعاءاتها الذاتية.
لقد أدّى سقوط المخلوع وحلّ
حزبه الحاكم بقرار قضائي إلى تغيير جوهري في الحقل السياسي التونسي، فبعد أن كانت
الحياة السياسية مختزلة في الحزب الحاكم وبعض الأحزاب الكرتونية التي احتاجها
النظام للترويج لديمقراطيته أمام الرأي العام الغربي خاصة، وبعد أن كان الإسلاميون
"الخارج المطلق" أو الشر المطلق الذي تحتاجه
منظومة الحكم لتحديد هويتها،
حسب تعبير الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، أصبح عدد
الأحزاب في تونس يتجاوز المئتين،
وأصبح الإسلاميون (رغم كل الصراعات السياسية والأيديولوجية، ورغم كل الخطابات
الاستئصالية التي تُبنى بمنطق النفي ومفردات الحرب الوجودية ) جزءا بنيويا في
المشهد السياسي. ووجدت تونس نفسها في وضع غير مألوف حتى قبل بناء ما يُسمّى
بالدولة الوطنية (الدولة- الأمة): سلطة موزعة بين أكثر من شخص وأيديولوجيا، تعايش
قانوني (هش ولكنه يترسخ تدريجيا) بين الإسلاميين والعلمانيين، احتكام لصناديق
الاقتراع وإرادة الناخبين بعيدا عن التلاعب وتوظيف أجهزة الدولة لتدليس النتائج،
نخبة سياسية تفيض على مركزي السلطة التقليديين (العاصمة والساحل)، مجتمع مدني قوي،
إعلام حر رغم كل هناته وتقاطعاته مع المال السياسي الفاسد، هيئات دستورية رقابية
وتعديلية.. إلخ إلخ.
"النمط المجتمعي":
لبنة بناء أم معول هدم؟
في ظل هذا الواقع السياسي
الجديد، قد يبدو من التناقض الحديث عن مشاريع للزعامة أو التخوّف من عودة الاستبداد
وعبادة الزعيم، بما يعنيه ذلك من أحادية الصوت وضرب الحريات وثقافة الاختلاف.
ولكنّ هذا التناقض سرعان ما ينحل عندما نستحضر بعض المعطيات التي تظهر هشاشة
التجربة
الديمقراطية وإمكانية انتكاستها إلى مربع 13 كانون الثاني/ يناير 2011، بل
إلى مربع 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987.
ورغم كثرة الأصوات المحذرة
من العلاقة الملتبسة للإسلاميين (النهضويين تحديدا) بـ"النمط المجتمعي
التونسي"، أي بالبورقيبية باعتبارها السردية الكبرى المهيمنة على بناء هذا
النمط المجتمعي وتحديد خياراته الثقافية والتشريعية، فإننا نذهب إلى أن النهضويين
هم أقل الناس خطرا على "النمط المجتمعي التونسي" الذي يراد بناؤه
للجمهورية الثانية. فمهما بلغت قوة حركة النهضة، فإنها ستبقى عاجزة عن صناعة
"زعيم" يكون محل توافق حتى داخل الدائرة الإسلامية، فما بالك بأن يكون
محل إجماع خارجها. وحتى في صورة نجاحها في ذلك، فإنه سيكون زعيما خاضعا للسردية
البورقيبية من جهة أولى، ولموازين القوى غير المتكافئة مع القوى العلمانية
المهيمنة على صناعة الرموز والخيرات.
النهضويون هم أقل الناس خطرا على "النمط المجتمعي التونسي" الذي يراد بناؤه للجمهورية الثانية
إن الخطر الحقيقي الذي
يتهدد الديمقراطية التونسية، هو في نجاح "القوى الحداثية" أو
"العائلة الديمقراطية" (بدعم من محور الشر وبرعاية فرنسية) في صناعة
زعيم، قد يسمح له السياق التاريخي بتفعيل القولة الشهيرة للمرحوم الباجي قائد
السبسي: "نحن والنهضة خطان متوازيان لا يلتقيان". فهذا
"التوازي" الذي تراجع عنه المرحوم قائد السبسي خلال تجربة "التوافق"،
لا يعني فقط إقصاء النهضة من الحقل السياسي القانوني، بل يعني أساسا قتل الحياة
السياسية "الطبيعية" والارتكاس إلى مربع الاستبداد.
لقد أثبت "الانتخاب
المفيد" الذي اعتمدته القوى الحداثية لدعم المرحوم السبسي في الانتخابات
الرئاسية والتشريعية سنة 2014 أن خطر ولادة المستبد ما زال قائما، كما أثبتت مواقف
أغلب القوى "الديمقراطية" من الانقلاب المصري ومن
الوضع الليبي (بل من
كل الدكتاتوريات التي يكون ضحاياها من الإسلاميين أساسا)، أن تلك القوى لن تتردد في
دعم أي انقلابي تونسي يستطيع تخليصها من الإسلاميين، حتى إذا كان ثمن ذلك عودة
الاستبداد و"تربّب" الزعيم على الشعب المغلوب على أمره.
"الديمقراطيون":
ضمانة للديمقراطية أم أول أعدائها؟
لعل من باب المفارقة أن
يكون أكبر خطر على الديمقراطية في تونس هو "العائلة الديمقراطية"
بالمعنى الموروث من العهد الاستبدادي. فأغلب تلك القوى تصوغ خطاباتها ومواقفها
داخليا وخارجيا بمنطق التناقض الرئيسي مع الإسلاميين والتناقض الثانوي مع المنظومات
الاستبدادية الحاكمة، مهما كانت الأسس المتهافتة لشرعيتها أو مشروعيتها. وهو موقف
لا يشذ عنه إلا آحاد الأفراد من "الديمقراطيين" وبعض المكونات الحزبية
التي تجد تجسدها الأمثل في حزب التيار الديمقراطي (الممثل الأبرز لليسار الاجتماعي
المتحرر من منطق الانقلاب والاستئصال).
من باب المفارقة أن يكون أكبر خطر على الديمقراطية في تونس هو "العائلة الديمقراطية" بالمعنى الموروث من العهد الاستبدادي. فأغلب تلك القوى تصوغ خطاباتها ومواقفها داخليا وخارجيا بمنطق التناقض الرئيسي مع الإسلاميين والتناقض الثانوي مع المنظومات الاستبدادية الحاكمة
ورغم التراجع الانتخابي
لليسار الثقافي الذي كان وما يزال الحليف الاستراتيجي الأوثق للمنظومة القديمة
وواجهاتها الحزبية، فإن قوته النوعية داخل النقابة والمجتمع المدني والإعلام
والثقافة وغيرها، تجعله خطرا حقيقيا على أية تجربة ديمقراطية، وعائقا بنيويا أمام
أي مشروع وطني جامع يتجاوز السرديات الكبرى من جهة أولى، ويتخارج عن منطق المنظومة
القديمة ومصالحها المادية والرمزية من جهة ثانية.
كما أن ثقافة الزعامة
والرغبة في تأبيد الحضور داخل المناصب القيادية حزبيا ونقابيا (بالإضافة إلى
منطق
الإقصاء والتمييز على أساس أيديولوجي)، تظل تحديا حقيقيا أمام ترسيخ ثقافة التداول
على السلطة، كما يمكن لرموزها أن يتحوّلوا إلى حلفاء موضوعيين لأي مغامر يطمع في
"تَونسة" أحد السيناريوهات الانقلابية المعروفة مهما كانت كلفتها
البشرية. ولا ننسى قول أحد الانقلابيين في "
اعتصام الرحيل" أن جماعته كانوا
يرون أن قتل 20 ألف شخص كان ثمنا معقولا لسقوط حكومة الترويكا.
twitter.com/adel_arabi21