قضايا وآراء

مهانة الخروج من التاريخ

1300x600
لعل أخطر ما يواجه العرب، ويبقي عليهم في ذيل الأمة المسلمة؛ هو غياب صنعة التأريخ، ومن ثم ضمور الوجدان التاريخي لأجيال كاملة، تم تغييب وعيها. وعلى عكس مُسلمي إيران وتركيا وباكستان، مثلا؛ فإن صنعة التأريخ عند العرب المحدَثين تُعاني ما لم تعانه شعوب مسلمة أخرى، مرَّت بالتجربة- الصدمة الكولونياليَّة- ذاتها. وربما كان السبب الأهم لذلك، هو رغبة "القائم بترشيد الواقع" في الإبقاء على الاستقطاب الأيديولوجي العبثي السخيف، الذي يُعزِّز عملية تحطيم الوجدان التاريخي عند العرب؛ بوصفهم المصدر الأهم والمركزي لوعي الأمة المسلمة بنفسها، وداعي وحدتها.

إذ تُعاني صنعة التأريخ عند العرب نفس ما تعانيه الحركات "الإسلامية" بين ظهرانيهم منذ سبعينيات القرن العشرين: إفراط الأدلجة المشوِّهة للوعي. وبدل أن يتم تفكيك ونقد الإسهامات النظرية والعمليَّة في هذا المجال (خصوصا إسهامات ما بين النكبتين 1948و1967م) والبناء فوقها؛ فقد استُلَّت أكثر مقولاتها الجدليَّة (ذات الهياكل المعرفيَّة الماديَّة) على علَّاتها، لتُبنى عليها أطروحات أيديولوجية "إسلاميَّة" أفرزت الإنتاج الدعائي لكُتاب أمثال: علي الصلابي وراغب السرجاني وجيلهم، والجيل الذي تتلمذ عليهم!

وإذا كانت النخب العلمانية التي تسلَّمت إدارة أكثر الدول العربية، من القوى الكولونياليَّة الغربيَّة؛ قد أعادت كتابة تاريخ بُلدانها، من "منظور" قُطري؛ فشكَّلت وجدان أجيال كاملة بهذه السرديَّات المتشظيَّة المزيفة، مُستَخدِمة كل وسائل الإعلام التي تهيمن عليها. فقد أنتجت الحركات الإسلامية (السُنيَّة) في العالم العربي سرديات تاريخية مضادة لا تحظى بذات الانتشار: سرديات مضادة للعلمانيين، ومضادة للهيمنة الغربية، ومضادة للشيعة، بل ومضادة لبعضها البعض في أكثر الأحيان!

هذه السرديات الصراعية المتصارِعة هي من الهشاشة بدرجة تجعل شباب الحركات الإسلامية يُعاني تشوشا حقيقيّا وشكّا مؤرقا حين ينفتح على سرديات أكثر نُضجا وتركيبية، وأقدر تفسيريَّة؛ حتى لو كان مُنتجها علماني أو غير مُبالٍ بالدين. أما الكارثي، فهو التداخُل الحتمي للسرديات الأيديولوجيَّة "الإسلامية" مع السرديات العلمانية الرسمية، ذات البنى المشابِهة؛ ليُفرِزَ هذا الغثاء المُضَلِّل أجيالا مشوَّهة بالكلية، لا تُحق حقّا ولا تبطِلُ باطِلا؛ إذ عجزت تماما عن التمييز!

هذه الأزمة المتفاقمة تُيسِّر شيوع ذهنيَّة الاستكانة للانقطاع التاريخي، فهو مريح للنفس وييسر الحكم والتصنيف. فمثلا، إذا كانت إراقة دماء آلاف الإسلاميين ابتلاء للجميع (وربما اصطفاء لبعض الأفراد)؛ فإن هذا الدم المسفوك لا يجعل أصحابه ضحايا بالضرورة، لمُجرَّد كونهم الطرف "المهزوم"؛ ناهيك عن أن يصيروا موضعا لحلول الحق والإسلام والقداسة. إن توظيف حُرمة الدماء وقداستها، دنيويّا؛ لإسباغ القداسة على الفعل البشري "المدنَّس"، وهو فعل الدراويش الجهَّال الذين يتبعون كل ناعق؛ سوف يخلق هالة مقدسات زائفة من أهواء الأفراد وخطايا التنظيمات وكبائرها.

وبدلا من إهالة التراب على إفساد هذا الجيل المتصدِّر من الإسلاميين، وطي صفحة صدهم الجهول عن السبيل، باسم الإسلام؛ وتحالفهم الأخير مع العسكر الفُجَّار، ومن قبلها الانبطاح لمبارك والسادات؛ سيصير الفعل (الفشل!) التاريخي لهؤلاء "الضحايا" مُقدَّسا، قداسة لا واعية؛ بدل محاكمة دنسه المتأصِّل في كل حركة!

هذه القطيعة الوجدانيَّة والحركيَّة الكامِلة، التي يُعتبر غياب صنعة التأريخ أحد أسبابها المركزيَّة؛ لا تعني فحسب ضمور الوعي التاريخي وتهرؤ الوجدان الديني، وإنما تعني إخراج قلب الأمة المسلمة (العرب) من معادلة الفعل التاريخي المبادِر، ومن ثم الحكم عليهم بالتبعيَّة لمن يركبهم، أيّا كان. وبقدر ما يطوي هذا التقهقر فتنة وصدّا عن السبيل، لمن يتأمل في حال "أحفاد" حملة الرسالة الأوَل، المفترض بهم الدعوة إلى الله بنفوسهم؛ فهو يُثقِلُ كاهل أجيال كاملة من "العرب" بهذا الإثم المركَّب، فهو ليس إثم نكولهم وحدهم، وإنما إثم فتنتهم لغيرهم بلسان الحال.

ولعلَّ المخرج الوحيد من هذه الوهدة التاريخيَّة والإنسانيَّة هو إعادة قراءة (وكتابة) تاريخ القلب العربي لهذه الأمَّة (خصوصا خلال القرنين الماضيين منذ الهجمة الكولونياليَّة)، بعد التخفُّف قدر الطاقة من المعطيات والتحيُّزات الأيديولوجيَّة والمعرفيَّة القبليَّة، التي يُمليها ثِقَل الواقِع المشوَّش المشوَّه، وطول أزمة القطيعة التاريخيَّة. إن المخرج الوحيد لهذا القلب العربي هو أن يبدأ بإدراك وجوده التاريخي بوصفه وحدة واحدة تجمعها الغاية الإلهيَّة والرسالة النبويَّة، ومن ثم استيعاب تجاربه المؤلمة إبَّان القرنين الأخيرين في إطار تكامُلي؛ إدراكا حقيقيّا يخلُص لله من غواشي الشعوبيَّة والشوفينيَّة، القُطريَّة منها والعرقيَّة؛ فلا يتعلَّق بصره في ذلك المسعى إلا بشيء واحدٍ فحسب: الإخلاص في تربية النفس المسلمة، كما أراد الله لها أن تكون؛ تمهيدا لاستعادتها دور قيادة هذه الأمة التي طال تخبُّطها.