كتاب عربي 21

كيف تُصبح مُفَكّرا عظيما في ثلاث ثوانٍ؟

1300x600
يمكننا ملاحظة ظاهرة في التعاطي مع الأطروحات المعاصرة؛ في ميدان الفكر الإنساني، على وجه الخصوص بما يتّصل به من قضايا الدين، وهي التوقّف عند المقولة، النتيجة، الرأي، والاكتفاء بذلك لتقدير المستوى المعرفي لصاحبها. وإذا كنّا في مجال ما يُسمّى تجديد الخطاب الديني، أو القراءة المعاصرة للدين، واتُّهم من يُنعتون بالتراثيين والتقليديين والإسلاميين، بالاجتزاء، والافتراء، والاحتراز بالشتائم والتكفير من المواجهة الفكرية، وبصرف النظر عن صوابية هذا الاتّهام في تعميمه، ومدى دقته ومصداقيته في تتبّعه لإنتاج هؤلاء "التقليديين" في مناقشتهم "للمجدّدين" وأصحاب القراءة المعاصرة، فإنّ أنصار الآخرين بدورهم، يَقصرون العملية الفكرية، وماهيّة التجديد والاستنارة، على مجرّد المقولة دون الاعتناء بمقدّماتها ومسارها النظري وأدواتها المنهجية وذخيرتها المعلوماتية.

وإذا كان العنوان يُبدي سخرية من هذه الظاهرة، فهو حقيقيّ، فقد لاحظنا الاحتفاء بشخصيات معاصرة، لمجرّد أنّ ما تقوله مختلف، وبعضها يغالي في الاختلاف حتّى يبدو نَسْخا للدّين الذي يعرفه المسلمون. ولا شك في أنّ تلك الشخصيات لا تكتفي برمي المقولة هكذا، وإنما تُغلّفها في منتج كبير الشكل منتفش الادعاء، كأن يكون كتابا، أو خطبة، أو برنامجا تلفزيونيّا، أو دون ذلك، كأن يكون مقالة أو منشورا أو تغريدة. بيد أنّ ما يظهر على كثير من معجبيها، عدّ تلك الشخصيّات مجدّدة ومستنيرة، لمجرّد مخالفتها لما هو مستقرّ وسائد ومألوف في عقائد المسلمين وتشريعاتهم وطرائق تعاملهم مع نصوصهم الدينيّة، دون أن يلتفت المعجبُون إلى العملية الفكرية بكاملها، بمعنى دون أن يسألوا: كيف وصل فلان إلى هذه النتيجة؟!

إنّ إنتاج المقولات ممكن لأيّ أحد، ويمكن بهذا التحوّل إلى مفكّر عظيم، في ثوانٍ، بمجرّد شتم البخاري وتحميله الجناية على المسلمين، والشافعيِّ واتهامه بحبس المسلمين في قمقمه المتخلّف عن الأمم 1200 عام، وازدراء أصول الفقه وتجريمه بتجميد عقول المسلمين وحجزهم عن الإبداع والاجتهاد لعصرهم، والحطّ من السنة النبويّة وجعلها سببا للأزمات المعاصرة بأنواعها، وهكذا.. إلخ.

إنّه وبقدر ما في هذه الدعاوى من قصور في ملاحظة المشكلات المعاصرة حينما تُسند حصرا إلى أسباب ثقافية، فإنّها عاجزة عن برهنة نفسها، ثمّ لا يهمّ المعجبين إن تمكّن أصحاب القراءات المعاصرة من برهنة مثل هذه الدعاوى أم لا، أو هل استندوا في البرهنة إلى منهج متسق غير متناقض أم لا، وهل برّروا هذا المنهج بما تحتمله الموضوعة، كأن تكون إعادة قراءة القرآن قراءة مخالفة لما أطبق عليه المسلمون طول تاريخهم واحتمله لسان العرب؟ ثمّ هل أبانوا عن معرفة وافية بما ينتقدونه كعلوم واصطلاحات المسلمين أم أبانوا عن العكس؟ ومن أظهر قدرا من المعرفة هل كان أمينا في نقولاته؟ وهل تناقض في أدواته وحججه كأن يستدلّ في موضع بما يبطله في غيره، فيكون داعي الاستدلال الهوى والتشهّي والرغبات المسبقة؟! وهكذا..

في النقاشات التي تتبّعتها في السنوات الأخيرة، بين من يوصفون بالجمود والتراثية، وبين معجبي الموسومين بالتجديد والاستنارة، في ردّ الأوائل على الأواخر، لاحظتُ في كثير منها رفض أتباع أصحاب القراءة المعاصرة الدخول إلى عمق تلك الأسئلة، وفحص قوّة العملية الفكريّة ومتانتها للذين يصفونهم بالتجديد وفتح مغاليق الفكر، ومدى تأهّلهم العلمي وأمانتهم في النقل واتساقهم في المنهج، بالرغم مما يقدّمه الأوائل من أدلة وبراهين على تناقضات المجدّدين الفادحة، وأخطائهم الفاحشة، وافتقارهم للأمانة والمصداقية في كثير من أطروحاتهم. إذ يبدو من محاماة معجبي أصحاب القراءات المعاصرة وأتباعهم الجمود عند المقولة، والاكتفاء بها، سواء بدت ساحرة ولافتة للوهلة الأولى كالقول: "علينا أن نجتهد لعصرنا بعقولنا لا بعقل الشافعي"، أو بدت حمقاء تنضح بقلّة الأدب والرعونة، كالقول إنّ النبي، صلّى الله عليه وسلم، مجرّد مبلّغ لم يكن يفهم القرآن الذي بلّغه فضلا عن أن يشرحه. فدون أن يُعمِل دعاة العقل عقولهم في نتاج متبوعيهم ومحطّ إعجابهم.. يكتفون بجرأة المخالفة دليلا على الإبداع والتجديد، ومن يمدّهم بالبرهان على التناقض والعبث والجهل.. يتّهمونه بالاجتراء والافتراء والتحجّر والجمود! وهكذا فنسخ أحكام الميراث، مثلا، تجديد واستنارة، أمّا كيف؟ ولماذا؟ وهل هو مراد الشارع؟ فليس مهمّا، وفي المقابل من لم يزل يقول بما قاله القرآن، في هذا الأمر، فهو تقليديّ جامد في أحسن أحواله!

وليست المشكلة في الأتباع فحسب، بل في كثير ممن يسلك مسلك "التجديد"، فيتصوّر الأمر بتلك السهولة، أيْ بمجرّد الدعوى، أو الدعوة لتغيير بعض الأحكام، أو استبدال الأطر المعرفية التي يدور فها التفكير الديني، ثمّ لا نرى جهدا فكريّا حقيقيّا، ولا تأصيلا معرفيّا جادّا، سوى المصادرة على الآخرين وإلزامهم بما هو محلّ الخلاف أصلا، أو الاحتجاج بأقوال بعض الرجال المخالفة لما أطبق عليه المسلمون وتجلّت قطعيّته في الكتاب؛ للقول، مثلا، إنّ تلك الأقوال كافية لنفي قطعيّة تلك المسألة في القرآن! فما أسهل تمزيق قطعياته إذن حينما يصبح أيّ قول كافيا لنفي قطعيّته مهما سخُف هذا القول وتهافت، فمصدر قوّته إعجاب "المجدّد به"، وهكذا يُدخلنا المجدّدون المبتدؤون في دور منطقي، لا نعرف فيه الحجة من المحتج بها.

أمّا المجدّدون المحترفون فشأنهم أسوأ، فاللغة معهم تفقد أمانها، حتّى لا نعرف معنى الرجل ولا الشهيد ولا الأب والأم ولا الوالد والوالدة، وكأن يزعم أحدهم معنى في مطلع الآية ينقضه آخرها لو أكمل قراءتها، فمن غفل عن بقية النصّ الذي يحتجّ به من باب أولى أنّه يجهل بقية القرآن، فكيف بالسنّة التي ينكرها، ولكنه قد يحتج ببعض أفرادها إن وافقت تصوّراته المسبقة، هذا والنبي عند بعضهم مبعوث لقومه خاصّة، وقومه عرب زمانه فحسب، وهكذا ينعدم المعيار المطلوب قاعدة مشتركة للتفاهم على أساسها. إذ اللغة نفسها تفقد خاصيّتها أداة للتفاهم، والقرآن سائل إلى درجة لا تبقي له وظيفة، والسنّة لا حجة فيها، فكيف لو تحدّثنا عن الإجماع، وفهم الذي نزل القرآن فيهم، والمدوّنات الفقهية والأصولية التي وضعها المسلمون طوال تاريخهم؟!

والحاصل أن هذا العبث لا يمكن أن يكون بحثا عن الحقّ، فالإشكال ليس في أقوال خاطئة نجمت عن عملية فكرية محترمة أرادت الحقّ فأخطأته، وإنّما فسدت العمليّة الفكريّة برمّتها لأن صاحبها أراد أساسا الوصول إلى نتائج معيّنة وضعها سلفا فتوسّل للإقناع بها بادعاءات بحثيّة رثّة، والغاية هي نسخ الدين من داخله، وبأدوات تُنسب إليه، بإعادة صياغته لعلمنته، فالفرق بيّن بين من يبحث عن أمر الله، وبين من يريد إخضاع أمر الله لأمره هو.

وإذا كان هذا حال أنبياء التجديد الزائفين المعاصرين، فإنّ مردّ إعجاب من لم يكن من طبقتهم متفاوت، إلا أنّه يُلاحظ أن ساحة الإسلامين قد لا تخلو من بعض هؤلاء المعجبين، وذلك نتيجة طبيعية لهزائم حركاتهم، التي سبق لهم بلسان الحال والاعتقاد الكامن أن جسّدوا الإسلام فيها، فلما هُزِمت، أعادوا النظر في الإسلام نفسه بدلا من إعادة النظر في أنفسهم إن كانت العقدة فيها، وحركاتهم إن كان الخطأ فيها، ونتيجة طبيعية كذلك لنزعات التسييس والبراغماتية المفرطة التي لم تحترم المدوّنة الفقهية ولا علوم المسلمين الشرعية كما ينبغي!