قضايا وآراء

هل ينتهي عصر غثاء السيل؟

1300x600

عبارة (غثاء السيل) التي أطلقها رسولنا صلى الله عليه وسلم على الأمة في حجة الوداع حينما تتدافع على قصعتها الأمم وتهزل وتجبن وتفقد كبرياءها، هي العبارة التي ربما لا نتردد عن استعمالها لتوصيف حالة الوهن والعجز الراهنة التي ركن إليها العرب من دون الأمم المسلمة الأخرى. 

 

مبادرة ماليزية


وأتساءل اليوم: هل إن أمتنا على وشك أن تغادر عصر الغثاء لتستعيد وعيها وتقف من جديد معتزة بمخزونها قادرة على رفع تحدياتها، لأن العبرة الكبرى من خطبة حجة الوداع هي الدعوة إلى الوحدة لأنها إذا أسست على العدل والمساواة فإنها لن تنفصم؟ 

هذا التفاؤل ليس مجانيا أو عاطفيا لأن بشائره جاءتنا هذه الأيام من ماليزيا على لسان رئيس حكومتها وصانع معجزتها المفكر المسلم مهاتير محمد حينما نادى إلى عقد قمة مصغرة في (كوالالمبور) خلال الأيام المقبل من أجل الاتفاق على خارطة طريق للتعاون بين الدول المسلمة وإحياء روح المبادرة والتضامن والتنسيق بينها. وما الشراكة الاستراتيجية بين دولتي تركيا وقطر الموقعة بين أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني والرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم الإثنين 26 تشرين ثاني (نوفمبر) الجاري إلا تعزيز لهذا التوجه الكريم الجريء نحو خدمة الأمة والذود عن حقوقها.

وأتذكر هنا تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي والزيارة التي أداها لتونس الملك الصالح فيصل بن عبد العزيز سنة 1966 وعند زيارته للقيروان ألقيت أنا قصيدة حين كنت أتطفل على الشعر على مسامع الملك والزعيم بورقيبة أشدت فيها بالتعاون الإسلامي، لأن ذلك الزمن كان يتميز بانحراف جامعة الدول العربية، حيث تحولت إلى ملحق بالخارجية المصرية (ربما كما هو شأنها اليوم) حين قام المرحوم جمال عبد الناصر بتقسيم العرب إلى تقدميين وإلى رجعيين، وهو يخوض حرب اليمن التي أدت به إلى اعتبار العرب منقسمين إلى جمهوريات تدعي التقدمية وملكيات توصم بالرجعية، والحقيقة التي ندركها اليوم بعد أكثر من نصف قرن أن العرب كانوا كلهم في ذلك العهد متخلفين وخارج سياق التاريخ، وهو ما اتضح للعالم يوم الهزيمة النكراء لمصر وسوريا والأردن والعرب جميعا يوم الخامس من حزيران (يونيو) 1967، واكتشف العرب بأن المذيع المصري على أمواج صوت العرب المرحوم أحمد سعيد كان يخدر العرب بصوت جهوري حماسي لكنه كاذب يدلس الحقائق ويقدم تلك الهزائم العربية في شكل انتصارات وهمية تغيب الوعي! 

المهم أن الملك فيصل بن عبد العزيز والزعيم بورقيبة فكرا في تلك السنة في تأسيس منظمة بديلة عن جامعة الدول العربية فاتفقا على أن يجتمع المسلمون وهم أكثر عددا وأقرب لبعضهم البعض بالعقيدة في منظمة عقدت مؤتمرها الأول مع حريق المسجد الأقصى عام 69. 

 

خطأ الناصرية


ثم لا ننسى أن الرجلين فيصل وبورقيبة كانا في آب (أغسطس) 66 أول من ندد بقتل المفكر الإسلامي المصري سيد قطب، بل إنهما حاولا التدخل لدى عبد الناصر بعد صدور حكم الإعدام على سيد قطب. وللتاريخ فإن بورقيبة وهو العلماني كان تدخل لدى الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم وأنقذ من حبل المشنقة صديقه وصديق القضية التحريرية التونسية المرحوم محمد فاضل الجمالي وكان صديقي الشخصي أيضا تعرفت على فكره وعلمه في الثمانينيات ونشرت مقالاته القيمة حول التربية في العالم الإسلامي.

 

كان عبد الناصر نفسه قريبا من فكر الإخوان مثل أغلب الضباط الأحرار وكان يزور قبر حسن البنا ويقرأ الفاتحة عليه باعتراف محمد حسنين هيكل!


ولم يهتم عبد الناصر بتدخلات بورقيبة وفيصل وتم إعدام سيد قطب والتجأ شقيقه محمد قطب الكاتب للسعودية وعاش ثم توفي منذ سنوات قليلة في مكة المكرمة! 

وأذكر أنني كنت في العشرين من عمري وكتبت مقالا في جريدة (العمل) مطلع أيلول (سبتمبر) 66 بعنوان (القطيعة مع عبد الناصر) بعد أيام من إعدام سيد قطب، وهو ما اعتبرته خطأ ناصريا كبيرا لأن عبد الناصر لم يحقق انقلاب 18 تموز (يوليو) 52 إلا بعد مناصرة جماعة الإخوان المسلمين له، فقد كان عبد الناصر نفسه قريبا من فكر الإخوان مثل أغلب الضباط الأحرار وكان يزور قبر حسن البنا ويقرأ الفاتحة عليه باعتراف محمد حسنين هيكل! 

إذن كانت سنة 1966 محطة فاصلة بين القومية العربية من منظور عبد الناصر وبين التضامن الإسلامي كبديل استراتيجي عن الهيمنة الناصرية، فنشأت منظمة المؤتمر الإسلامي ومقرها بجدة وكان أمينها العام الذي أعطاها صبغتها الدولية هو الدبلوماسي التونسي الحبيب الشطي رحمه الله وزير خارجية تونس الأسبق، وأصبحت منظمة عالمية تجمع اليوم 57 دولة مسلمة واسمها اليوم (التعاون الإسلامي). لكنها أصيبت بما أصيبت به جامعة الدول العربية من تصلب الميثاق وجرتها الخلافات العربية إلى حالة الجمود والخروج من الفعل والتأثير. فيا حبذا لو تعود الفكرة النبيلة المشروعة لإحياء التضامن الاستراتيجي بين الشعوب المسلمة بحكوماتها المعتزة بأمجادها لتكون أمة وازنة ومؤثرة في حضارة المستقبل والإنسان وأمن العالم وسلامه وعدله.