كتاب عربي 21

ولا عاش المهرجون!

1300x600

عندما لا تستطيع التوقف عن التفكير فيه، لا تتوقف عن العمل من أجله. الطريقة المثلى للتنبؤ بالمستقبل هي صناعته. تخيله في حلمك، صدقه وآمن به، أنجزه.

عاش الشعب

لم يلتفت أحد من المطبلين أو الناقدين لأغنية ثلاثي الراب المغربي ولد لكرية ولزعر والكناوي إلى هذا "العنوان" الفرعي لأغنيتهم التي أثارت الكثير من الجدل وانتهت بأحد أضلاع الثلاثي معتقلا يواجه المحكمة في جلستها الثانية اليوم (الخميس). كل ما أثار المهللين للأغنية عنوانها الأبرز (عاش الشعب)، باعتبار انتمائهم المفترض إلى هذا الشعب الذي "تدافع" الأغنية عنه في مواجهة الاستبداد مكرسا في "نقيضه" (عاش الملك)، المحرك للطرف الآخر المنتقد لمتن الأغنية وخطابها المباشر المفعم بكثير من اللا احترام لملك البلاد.

 

الشعب غير قابل لتصديق بيانات السلطة، الفاقدة في نظره لكثير من المصداقية وغير يسير من الحكمة في القول والفعل، فكثير من أبناء الذوات عاثوا في شرف رجالها ضربا وسحلا في الشوارع العامة دون أن ينالهم من العقاب نصيب.


لأجل هذا، تشكلت قطبية مغشوشة تحيل على أن الإثنين غير قابلين للعيش جنبا إلى جنب دونما إقصاء بالثورة أو بالاضطهاد فعلا وممارسة. ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فقد شكل اعتقال الكناوي، بعد نشر الأغنية، زادا لا ينضب للمزايدات. تقول الدولة إن الرجل اعتقل على إثر نشره لفيديو سابق عن الأغنية هاجم فيه رجال الشرطة بالسب والشتم، ووصف فيه الزوجات والأمهات بالعاهرات، وهو واقع لم تستطع حتى منظمة العفو الدولية نكرانه إذ اعتبرت في بيان لها أن المغني المعتقل "ربما قد استخدم لغة مسيئة للإشارة إلى الشرطة"، لكنها اعتبرت ذلك "حقا مكفولا بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان"، وأن الاعتقال "اعتداء مروع على حرية التعبير". 

نهاية شهر نيسان (أبريل) الماضي، اعتذرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، عن نشرها رسما كاريكاتوريا، يظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بصورة كلب يجره الرئيس الأمريكي دونالد ترامب واعتبرت "الصورة مسيئة، وكان من الخطأ نشرها". الشعب غير قابل لتصديق بيانات السلطة، الفاقدة في نظره لكثير من المصداقية وغير يسير من الحكمة في القول والفعل، فكثير من أبناء الذوات عاثوا في شرف رجالها ضربا وسحلا في الشوارع العامة دون أن ينالهم من العقاب نصيب.

أغنية عاش الشعب تضمنت من النقد اللاذع ما كان يغني أصحابها من رهن مصير نجاحها من عدمه بتعابير تحمل في طياتها ذرائع قانونية للمنع والاعتقال. السلطة التي قيدها الملك بقرار سابق كان أعلنه وزير العدل وقتها، مصطفى الرميد، بعدم متابعة من ينتقده أو يسيء إليه شخصيا، أكدت أن محاكمة الكناوي تتم لفعل جرمي. لكن ال"الشعب" يعتبر الأمر غير قابل للتصديق ولو لم تتم متابعة الأطراف المشاركة الأخرى في العمل. 

الاعتماد على كلمات الأغنية تجعل من ولد الكرية الطرف الأقرب للمساءلة لما تضمنه مقطعه من هجوم مباشر على شخص الملك ومستشاره أندري أزولاي بزعم جنسيته اليهودية. لكن الحابل كثيرا ما يختلط بالنابل حين يصبح عدد المشاهدات مقياسا، حتى عند الكتاب والصحفيين والنشطاء، للتدليل على النجاح في التعبير عن رأي الجماهير. 

زمن مغاير

بعض الساسة وصانعي الرأي العام التقليديين يعتقدون أن الركوب على موجة كل ما من شأنه المساس بـ "مصداقية" السلطة وبرامجها يمنحهم الفرصة لتسجيل النقاط وإثارة الانتباه إليهم كبدائل ممكنة للعب دور صد الهجمات على الأقل مقابل امتيازات. لكنهم بذلك يساهمون من حيث لا يدرون بتعريتهم أكثر وكشف عجزهم عن التأثير في صناعة الرأي، بل التحول لهدف قادم لن يستثني أحدا في زمن "يتنحاو كاع" و"كلن يعني كلن".

في فيلم الجوكر ـ 2019، يقول آرثر فليك معلنا ثورته على المجتمع الذي لم ير منه غير الظلم والإهانة والانتقاص: أنتم جميعا يا من تشكلون النظام الذي يعرف كل شيء، أنتم تقررون ما الصواب وما الخطأ.. كما تقررون المضحك من عدمه.. أتعتقد أن أشخاصا أمثال توماس وين قد يضعون أنفسهم مكان أمثالي؟ أو يضعون أنفسهم مكان غيرهم؟ كلا. يخالون أننا سنجلس مكتوفي الأيدي ونتلقى المذلة مثل أطفال صغار مطيعين.. يخالون أننا لن نتوحش ونتصرف بجموح..

 

حان الوقت لنعلي الصوت بالدعوة الى سلطة الدولة الديمقراطية بسلاح القانون في مواجهة المفسدين والمستبدين والمهرجين مهما كان منصبهم أو وسيلتهم لتخريب العقول.


آرثر فيلك منسجم مع نفسه فأفعاله ما هي إلا انتقام شخصي من نظام وأفراد احترفوا الإساءة إليه. أما دور البطولة والرفع فوق الأكتاف وإعلانه زعيما فاختيار غير واع لشعب وجد في قصته ضالة للتعبير عن حنقه الشخصي والجمعي من ظلم وفساد. والحل في نظر الجمهورأن يتنحوا جميعا ولو عن طريق فوضى لا تبقي ولا تذر، ولا ترى لنفسها مشروعا بديلا يمكن الاحتكام اليه. 

الناس يبحثون عن البطل "الشعبي" القادر على استثارة الغضب المتصاعد في دواخلهم ومغازلة الآمال والطموحات بغد مشرق ومجتمع مثالي. ومقاولي الفتن متوفرون في كل الأمكنة ينتظرون الفرصة للنفخ في النار المتقدة أو إشعالها، أينما أمكن ذلك، باعتبارها "سبوبة" أو تحقيقا لـ"نبوءات" خرافية يدعي أصحابها العلم بالغيب الثوري. 

المهرجون يتكاثرون كالفطر في الإعلام والساحات والمنصات، والمستمعون أكثر عددا خلفتهم السياسات الفاشلة التي لم تولد غير الفقر والجهل والحرمان. والساسة فشلوا في تأطير الشارع فصاروا يركبون الموجات طمعا في مكان تحت الظل الثوري يحفظ لهم مناصب وامتيازات أو يقيهم المساءلة والانتقام. واقع الحال يؤكد أنهم سيصعقون لأن "الثوار" في الغالب لا يصوتون.

في لبنان والجزائر والعراق تظاهرات شعبية متواصلة لأسابيع وشهور. وبالرغم من قوة الاحتجاج وديمومته، فإن الحل المستجيب لطموحاتها لا زال مستعصيا في انتظار الالتفاف على مطالبها، والسبب غياب محاور ذي مصداقية ممثل للحراك.

في السودان وقبلها تونس، يكاد التغيير السياسي يحقق أهدافه لوجود نقابات عابرة للأحزاب حملت على عاتقها تبني طلبات الحراك والعمل، وفق الصيغ المتوفرة، على إيصال صوت المتظاهرين والسعي للتفاوض على الاستجابة لما أمكن من انتظاراتهم. النقابات العمالية، غير الفئوية، شكلت دوما صوتا للمحتجين وصمام أمان للسلم الاجتماعي. استزافها أو تحييدها في كثير من البلدان أدى إلى غياب الصوت "الجامع" القادر على رأب الصدع والبحث عن توافقات. مؤسسات الوساطة مهمة في أي نظام سياسي وتغييبها يجعل الصدام سبيلا وحيدا لإثبات الوجود وكسر الإرادات. وفي خضم هذا الجو ينشط المهرجون ويتناسلون دون حسيب أو رقيب في سيرك الشعبوية المفتوح أمام كل الأحلام والأوهام. 

مفهوم هلامي


الشعب مفهوم هلامي صار استخدامه في السنوات الأخيرة سمجا، وباسمه ترتكب الحماقات طورا وتتحقق بعض الآمال الظرفية/ الأوهام أحيانا أخرى. في أغنية عاش الشعب يصرخ لزعر بالقول "باسم الشعب.. عاش الشعب.. وعاش الدرويش (المسكين)". الشعب في المفهوم الشعبي لابد أن يكون معدما، عاطلا أو معطلا، محتقرا ومذلولا.. ومن يرى نفسه خارج تلك الصورة النمطية كلب سلطة أو متسلق أو وصولي يقتات من عرق الكادحين.

حان الوقت لنعلي الصوت بالدعوة الى سلطة الدولة الديمقراطية بسلاح القانون في مواجهة المفسدين والمستبدين والمهرجين مهما كان منصبهم أو وسيلتهم لتخريب العقول.

عاش الشعب صرخة حقيقية ونموذج، وإن لم يكن جديدا، لفعل "ثوري" يتخذ من الراديكالية في القول منهاجا، والخوف كل الخوف أن تتجسد الراديكالية في الفعل على الأرض دونما تأطير أو فهم أو تقديم بديل.

عاشت دولة القانون ولا عاش المهرجون...