كتاب عربي 21

انتفاضة لبنان بين التنميط والتعبيط

1300x600

يعيش لبنان حالة أزمة مزمنة، بسبب نظام حكم ما كان ممكنا أن يؤدي إلى وحدة وطنية، أو إلى تعزيز الحس بالانتماء إلى وطن، وصحيح أن ذلك النظام يحظى بالتوصيف بأنه ديمقراطي، لأنه يأتي ببرلمان منتخب ورئيس منتخب، ولكن وفق مواصفات وشروط وضعت قبل نحو قرن من الزمان، توزع المناصب السيادية والدستورية والتنفيذية وفق معادلة "طائفية" وعائلية، تجعل الوطن كعكعة معظم أجزائها مخصصة لبيوت معينة، احتكرت تمثيل الطوائف، ثم برزت في السنوات الأخيرة طائفة جديدة ممثلة في حزب الله الذي صار دولة موازية داخل المعادلة الهشة، بعد أن كانت العناصر التي يمثلها كمّا مهملا في معادلة الحكم القديمة، وصار التلميذ الذي غلب شيخه.

 

انفجار غير مفاجئ

ومن المؤكد أن اللبنانيين باتوا يرفضون أن يظلوا رهائن لآل فرنجية وشمعون والحلو والجميل ووكلائهم، ومن يسعون لتكريس الأحزاب الوراثية، ولم أستطع أن أتمالك نفسي من الضحك، وأنا أسمع رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري يخاطب الجماهير متعهدا بالقضاء على النظام القديم، الذي هو نتاجه، فلو لم يكن ابن رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، لما تسنى له شغل منصب أكبر من مقاسه الفكري والثقافي والسياسي.

ولم يكن انفجار الغضب الشعبي في لبنان على بؤس الحال العام بسبب بؤس نظام الحكم، مفاجئا إلا للجالسين على الكراسي الوثيرة في بعبدا وملحقاتها من حاملي الألقاب الفخمة، وشاغلي المناصب العليا في البلاد، الذين غاب عنهم أن دوام الحال من المحال، فكان الهلع والجزع وسوق الوعود بتحسين الأمور بإجراء إصلاحات هنا وهناك.

 

الحراك الشعبي الناشد للتغيير أو الإصلاح يبدأ عفويا في جميع الدول، ولكن وفي غياب قيادة مركزية وأجندة مركزية يسهل على السلطات الحاكمة اختراق الحراك وإضعافه


ولكن الوضع في لبنان لا يحتاج إلى إصلاح، بل إلى خلخلة الجذور لتغيير النظام بتغيير الدستور والسعي لإقامة دولة المواطنة من خلال ممارسة ديمقراطية لا تقوم على المحاصصة، كي تؤول مقاليد الأمور إلى ذوي الكفاءة، وليس ذوي الألقاب العائلية والطائفية، ليؤسسوا لمشروع وطني؛ ويعجب الإنسان كيف تأتّى للبنانيين أن يقودوا بنجاح دول في أمريكا اللاتينية، ويبرزوا في دهاليز الكونغرس الأمريكي، ويبقى الوطن الأم رهينة بأيدي بضع عائلات، ويبحث عن كفلاء إقليميين ودوليين

وباستقراء المشهد العام للحراك الجماهيري الحالي في لبنان، من الممكن القول بأن مواطنين من جميع الأطياف يشاركون فيه، مما يشي بأن هناك رأيا عاما رافضا لصيغة الحكم الحالية قد تشكل، ولكن هنات كثيرة ستصيب هذا الحراك في مقتل، يشله لحين من الدهر، أولاها عدم وجود كيان مركزي يمثل القاعدة الشعبية العريضة يقود وينظم هذا الحراك، وثانيهما أن غياب ذلك الكيان يغيِّب القضية المركزية، ألا وهي تغيير النظام، ويجعل صوت المطالبين بتحسين ظروف المعيشة والخدمات العامة، الأكثر ارتفاعا.

 

غياب القيادة المركزية

والحراك الشعبي الناشد للتغيير أو الإصلاح يبدأ عفويا في جميع الدول، ولكن وفي غياب قيادة مركزية وأجندة مركزية يسهل على السلطات الحاكمة اختراق الحراك وإضعافه بالرشا والوعود والوعيد، وينفتح الباب أمام السذج والبسطاء والانتهازيين، لتبخيس وتبسيط القضايا وتمييعها عن قصد أو من غير قصد.

وفي زمان صارت فيه وسائل التواصل الاجتماعي هي الأداة الأساسية لنقل أخبار مثل الحراك الذي يشهده لبنان، والتنسيق بين قطاعات الشارع السياسي والمطلبي، نلحظ أمرا مؤسفا يتمثل في أن بعض المشاركين في الانتفاضة، لا ينقلون عنها إلى العالم الخارجي، إلا مشاهد ممعنة في العبط والسخف والبلاهة والتفاهة، بتركيز عدسات الكاميرات والمايكرفونات على أشخاص ومجموعات عابثة تستغل الحراك الجماهيري لممارسة تهريج مبتذل، لا علاقة له بقضايا البلاد الصغرى أو الكبرى.

 

الوضع في لبنان لا يحتاج إلى إصلاح، بل إلى خلخلة الجذور لتغيير النظام بتغيير الدستور والسعي لإقامة دولة المواطنة


وبموازاة مقاطع الفيديو والتسجيلات الصوتية المبتذلة تلك، والتي تروج لها أقلية ضئيلة، لا أحسب أنها تتمتع بأي قدر من الوعي السياسي، صار عرب كثيرون خارج لبنان يتناقلون تلك المقاطع التي تسجل أقوال وأفعال شخوص بلهاء يستغلون الحراك الشعبي لعكس ثقافة "شوارعية" تسيء للحراك، مصحوبة بتعليقات تستخف بالحراك وتصور عموم اللبنانيين على أنهم قوم لعوبون ولعبنجيون، لا يميزون بين الجد والهزل، وهذا هو التنميط الذي عززه "التعبيط والتفحيط"، الذي يمارسه الغوغائيون في شوارع بيروت وفي ساحة رياض الصلح.

وليس من الممكن احتواء مثل هذه الظواهر السالبة، إلا في وجود إعلام ثوري تشرف عليه قيادة ميدانية للحراك، تتولى طرح الشعارات والتعامل مع وسائل الإعلام الخارجية والمحلية، وتقمع المهرجين، فالحسم والحزم الثوري ضرورة لانطلاق وسيرورة الفعل الثوري، كما هو ضروري لتحقيق غاياته.

وقد يخبو الحراك الثوري الشعبي في لبنان لافتقاره راهنا لمقتضيات ومتطلبات الاستمرار، ولكن من المؤكد أن كرة الثلج في لبنان بدأت تتدحرج، وقد تتوقف وتتعطل هنا وهناك لمرة واحدة أو أكثر، ولكنها حتما ستبلغ يوما ما من القوة ما يجعلها قادرة على كنس كل ما يعيق مسارها، وصولا إلى غاية تغيير النظام وإعادة بناء الدولة اللبنانية.