قضايا وآراء

الدساتير العربية: قالوا للحرامي احلف

1300x600

"الحمار أكل الدستور"، تلك العبارة الساخرة التي نحتها الشاعر محمد الماغوط، وأصبحت كليشة للتندر على الدساتير العربية، لكنه يذهب إلى رفع سقف السخرية عندما يتساءل كيف استطاع الحمار هضم مثل دستور كهذا، في إيحاء المقصود منه أن دساتير الدول العربية لا تصلح حتى لهذا الغرض.

شاع في السنوات الأخيرة الحديث عن الدساتير وتعديلاتها وإصلاحها في العالم العربي، وليس خافيا حصول هذا الأمر في أعقاب حراكات الجماهير العربية وثوراتها الربيعية، حيث بات الطلب كبيرا من أطراف اللعبة المتناقضين على الدستور، الذي بات يمثل مخرجا للاوضاع المأزومة التي وصلت إليها العلاقة بين السلطات والشعوب، وبات الحديث عن الدستور بمنزلة آلية للتسوية بين هذه الأطراف.

قد يبدو الأمر طبيعيا لو أن الذين انصرفوا إلى إدخال الدساتير، كحل في صراع مرير على السلطة، كانت نواياهم حسنة فعلا في البحث عن مخرج لهذه الأزمات، ذلك أن الدساتير هي عقود بين الشعوب والسلطات توضّح وتحدّد وتعيّن حقوق وواجبات كل طرف، والصلاحيات المناطة به والسلطات التي يملكها، بحيث يصبح الآلية الأكثر قدرة على موازنة العلاقة بين الشعب والسلطة، مع انحياز دائم للشعب على اعتبار أنه هو المستمر والدائم، في حين أن السلطة متغيرة، وشرط وجودها خضوعها لإرادة الشعب.

 

هل تنطوي الدساتير العربية على هذا القدر من الأهمية والفعالية التي تجعل الشعوب العربية مطمئنة على حقوقها، لمجرد أنه جرى تدوينها في بنود هذه الوثيقة

لكن إلى أي حد تنطبق هذه المواصفات على العلاقة بين الشعب والسلطة في العالم العربي؟ وهل تنطوي الدساتير العربية على هذا القدر من الأهمية والفعالية التي تجعل الشعوب العربية مطمئنة على حقوقها، لمجرد أنه جرى تدوينها في بنود هذه الوثيقة؟

لقد أثبتت مجريات الوقائع الماضية أن الدساتير في العالم العربي ليست سوى العشرين أو الخمسة وعشرين بندا التي تتحدث عن صلاحيات رأس الدولة، بوصفه القائد العام للقوات المسلحة، وهو الذي يختار رئيس الوزراء والوزراء، وهو الذي يرأس مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الدستورية، وهو الذي يسمي أعضاءها ويعفيهم من مهماتهم، ويحيل إليها القوانين للنظر في مدى ملاءمتها للدستور! وهو الرئيس الفعلي للسلطة التشريعية من حيث آلية التشكيل، وامتلاكه الحق في حلّ البرلمان من دون العودة إلى بقية السلطات.

 

الدساتير في العالم العربي ليست سوى العشرين أو الخمسة وعشرين بندا التي تتحدث عن صلاحيات رأس الدولة

ومن حق الرئيس إعلان حالة الطوارئ والإبقاء عليها سنوات وعقودا، يحق له في أثنائها حكم البلاد بالأحكام العرفية، وإلغاء الدستور ووضعه على الرف، وفي مصر وسوريا وكثير من البلاد العربية؛ استمرت حالة الطوارئ لأكثر من أربعين سنة، ما يعني أن جيلا او أكثر لا يعرف ماذا يعني الاختراع الذي اسمه دستور.

ورئيس الجمهورية غير مسؤول عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة مهماته إلا في حالة الخيانة العظمى، فمن ذا الذي يستطيع اتهام رئيس يملك كل هذه الصلاحيات بالخيانة العظمى؟ ثم من سيحاكمه إذا هو من يرأس القضاء ويعيّن ويعفي أعضاء المحكمة الدستورية؟

أما ما تبقى من الدساتير، فهو مجرد كلام نظري يستحيل أن تجد له ترجمات على أرض الواقع، إذ يندر أن تجد دستورا عربيا لا يقول في مقدمته "الحرية حق مقدّس لكل مواطن"، و"المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات"، و"احترام مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين"، و"للمواطن حق التجمع والتظاهر سلميا والإضراب عن العمل"، و"لا يجوز اعتقال أحد بدون مذكرة قضائية"، و"الشعب مصدر السلطات"، و"الحق في الحياة حق مقدس"، و"لكل حق الانتقال من مكان لآخر بكل حرية"، و"على السلطة تأمين كل الأدوات اللازمة ليتمتع المواطن بحقوقه أنفة الذكر".

 

ما تبقى من الدساتير، فهو مجرد كلام نظري يستحيل أن تجد له ترجمات على أرض الواقع

هاكم نصا ورد في الدستور السوري المعدل سنة 2012 لتعرفوا مدى سخرية هذه الدساتير وتهافتها: "لا يجوز تعذيب أحد أو معاملته معاملة مهينة ويحّدد القانون عقاب من يفعل ذلك" (المادة 53).. في سجون الأسد جرى ذبح عشرات الآلاف من المعتقلين وتعذيبهم حتى الموت، وجرى الدعس على رؤوس البشر في الشوارع العامة، وطلب الشبيحة من الأطفال المعتقلين أن يقولوا بشار الأسد إلهنا، وذهب شبيح إلى مقايضة معتقل بالقول له: إذا جعلتني أمارس الدعارة مع زوجتك أعفيك، أو أخفف العقاب عنك!

وفي الدستور المصري، المعدل سنة 2019، جاء ما تقشعر له الأبدان، فقد ورد في المادة 53: "التعذيب بجميع صوره وأشكاله، جريمة لا تسقط بالتقادم"، وفي المادة 54: "التمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليها القانون".. لكن جرى تعذيب آلاف السجناء بعد انقلاب السيسي، بمن فيهم الرئيس المصري محمد مرسي، كما حرضت أبواق السيسي على قطاعات شعبية كبيرة ودعت إلى اضطهادها وقهرها على الهواء مباشرة، كما طالب البعض بتصفية المعارضين في الخارج بشكل علني!

الدساتير العربية عبارة عن توليفة من استهبال الشعوب ووضع الحكام في مواقع الآلهة، ما يجعل هضمها صعبا حتى على الحمير، لذا علينا ألا ننتظر خيرا من الدعوات للجوء إليها.. هي منقذ للسلطات الحاكمة التي تجد في اللجوء للدساتير حلا لأزمتها وتشريعا لجرائمها، وهي بهذه الحال تشبه حالة الحرامي الذي "قالوا له: احلف، فقال: جاء الفرج".