كتاب عربي 21

عسكر السودان والغِيّ المقرون بالعِيّ

1300x600

والغِيّ هو أن يحيد الإنسان عن الطريق القويم المفضي إلى حيث السلام والأمان والرشاد، "قد تبيّنَ الرُّشدُ من الغَيّ" ـ سورة البقرة، بينما تقول العرب إن العِيّ هو العَجْزُ عن التعبير اللفظيِّ، بما يفيد المعنى المقصود وعدمُ الاهتداء لوجه المراد، أو العجزُ عن أداء المراد.

يتصدر واجهة العمل التنفيذي في دولاب الحكم في السودان منذ الأسبوع الثاني من نيسان (أبريل) المنصرم فريق من جنرالات الجيش السوداني كل واحد منهم برتبة فريق، تحت مظلة المجلس العسكري الانتقالي، الذي يريد الحلول محل الرئيس السوداني المعزول عمر البشير كهيئة رئاسة جماعية، بينما يكشف واقع الحال أنهم من فئة "تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى"، فرغم أنهم يلوكون عبارة "القوات المسلحة على قلب رجل واحد" للتدليل على أنهم كتلة صلبة ومتماسكة في مواجهة القوى المدنية التي قادت الثورة الشعبية التي أطاحت بالبشير، إلا أنهم وخلال الأسابيع الثمانية الأولى من تشكيل مجلسهم، انقلبوا على ستة من زملائهم وأبعدوهم من عضوية المجلس.

 

قاد الثورة وأطاح بحكم البشير

قاد الثورة الشعبية ضد حكم البشير كيان يتألف من عدد من النقابات تحت مسمى تجمع المهنيين السودانيين، وعندما أدرك التجمع أن سقوط حكم البشير بات مؤكدا، رتَّب لدخول الأحزاب والتنظيمات المسلحة التي ظلت تناوئ حكم البشير في تحالف قوى الحرية والتغيير (قحت) ليتولى إدارة شؤون الثورة، وترتيبات ما بعد انتصارها، بتشكيل حكومة انتقالية تمهد لانتخابات حرة تُفضي بالبلاد إلى مرحلة الديمقراطية المستدامة، وتضع حدا للحلقة الجهنمية التي ظل السودان يدور فيها: حكومة منتخبة يطيح بها انقلاب عسكري، فهبة شعبية تسقط حكم العسكر، فعودة إلى الحكم الديمقراطي، ف....، ف....

في أيامه الأولى في أعلى هرم السلطة، أنكر المجلس وجود "قحت"، وأعلن أنه سيدير شؤون البلاد، بالتراضي مع كافة القوى السياسية، ثم يسلم السلطة بعد عامين إلى حكومة منتخبة، فصار بذلك واضحا أن رهانه على السند المرجو من نفس القوى التي ناصرت البشير، ولا غرابة فالمجلس العسكري هو نفس اللجنة الأمنية التي كان منوطا بها حراسة حكم البشير.

 

قوى المعارضة للمجلس العسكري، وهو قوى الثورة الحقيقية، تمارس ضبط النفس في لغة الخطاب عن ومع المجلس العسكري،


بإزاء هذه المكابرة، قامت "قحت" بما أسمته التصعيد الثوري، بتسيير مواكب مليونية أعلنت رفضها التام لعسكرة السلطة، فتراجع المجلس العسكري واعترف بها كممثل وحيد لقوى الثورة، ودخل معه في مفاوضات حسمت أكثر من 90% من أمور نقل السلطة إلى مدنيين، وتبَقَّى فقط تقاسم مقاعد مجلس السيادة (رئاسة الدولة الجماعية).

وظل المجلس يغازل "قحت"، ثم يطعن في أهليتها تمثيل قوى الثورة، وصولا إلى اعتبار جميع التفاهمات معها لاغية، فكان أن جمد الاتحاد الأفريقي عضوية السودان، ثم مبادرته لحلحلة الأزمة السودانية بتكليف رئيس الوزراء الأثيوبي أحمد آبي بالتوسط بين "قحت" والمجلس العسكري، وقوبل الرجل بالترحاب، ثم زار الأمين العام للجامعة العربية الخرطوم!!!!! وبعدها صاح العسكر معلنين رفضهم لـ"الإملاءات" الخارجية، ومنهم من قال إن على أثيوبيا حلحلة مشكلاتها قبل أن تقترح حلولا لمشاكل السودان، بل حشدوا بضع عشرات أمام السفارة الأثيوبية في الخرطوم منددين بـ"التدخل الأجنبي".

 

ضبط للنفس في مواجهة خطاب العسكر

قوى المعارضة للمجلس العسكري، وهو قوى الثورة الحقيقية، تمارس ضبط النفس في لغة الخطاب عن ومع المجلس العسكري، لأنها باتت تدرك أن المجلس يكفيها عناء فضح مناوراته التي يهدف من ورائها إلى إطالة أمد النزاع حول السلطة، على أمل أن تتفتت قوى الثورة ويسهل استمالة بعضها بالمناصب أو المال، لإعطاء السلطة الانتقالية طابعا مدنيا.

وفي كل مؤتمر صحفي ينظمه المجلس لعرض بضاعته، يفضح عن غير قصد مراميه وعدم مصداقيته ونكوصه عن العهود، وحرصه على أن يرمي"قحت" بدائه ثم ينْسَل، ويتجلى عي العسكر في ليِّ أعناق الحقائق بتقديم أكاذيب فجة على أنها القول الحق، حتى صار الناطق الرسمي باسم المجلس الفريق شمس الدين كباشي معروفا لدى العامة والخاصة بـ "كذباشي"، وليس من دليل على العي المستفحل في أوصال المجلس من اعتراف كباشي بأن المجلس العسكري اجتمع وخطط لفض اعتصام الثوار أمام مقر القيادة العامة في التاسع والعشرين من رمضان، رغم أن كباشي نفسه من ردد مرارا أن فض الاعتصام بالقوة غير وارد إطلاقا، ولما تعالت صيحات الاستنكار والغضب على المجزرة التي نجمت عن فض الاعتصام، قال كباشي كلاما أكد استحقاقه للقب كذباشي، مؤدَّاه أن لسانه  تعرض لـ "التهكير"، وأن ما قاله فعلا هو أن قيادات القوات النظامية أرادت فقط تصفية جيب إجرامي قريب من موقع الاعتصام، ولكن "حدس ما حدس"، ولعله ومن باب التهذيب لم يخرج لسانه ليقول "حدث ما حدث".

 

صار الناطق الرسمي باسم المجلس الفريق شمس الدين كباشي معروفا لدى العامة والخاصة بـ "كذباشي"


وزعم آخر للمجلس العسكري لتبرير حرصه على الإمساك بمقاليد السلطة وهي مسؤولية القوات المسلحة عن أمن وسلامة الوطن والمواطن، بينما لم يعرف السودان عبر تاريخه المدون انفلاتا أمنيا كالذي شهده في الشهرين الماضيين، تمثل في اعتداء شخوص بملابس عسكرية على الناس في الشوارع والبيوت والمكاتب، وكان من أبشع ممارسات تلك العناصر العسكرية الفالتة، إحراق وتدمير العديد من مرافق جامعة الخرطوم في نفس يوم مجزرة رمضان، وكانت القوات الموالية لنائب رئيس المجلس العسكري، ترابط داخل مباني الجامعة قبل، وفي، وبعد ذلك اليوم، ولا يعقل أن يكون المجلس غافلا عن ذلك الحدث، لأن تلك الجامعة على مرمى حجر من قيادة الجيش، ومن القصر الرئاسي المحتل.

وقبولا لهذا المقترح أو ذاك ثم نكوصا عنه، والكذب الصراح حول وقائع عليها آلاف وملايين الشهود، يواصل المجلس العسكري الغي للانفراد بالسلطة، وبالحياد عن السبيل الذي يمنع الانهيار التام للدولة السودانية، ولعل العي الذي يتجلى في بيانات المجلس وقراراته المتناقضة ينم عن علة إدراكية ـ سياسية، تؤكد عدم أهليته للحكم، وأن القوى المدنية على حق عندما تصِر على أن يكون تمثيل العسكر في السلطة الانتقالية فقط كشريك أصغر.