كتاب عربي 21

مرسي بين "الحقيبة السرية" وبين "صديقي العزيز بيريز"!

1300x600

لم يظلم الرئيس الشهيد محمد مرسي في تقييم السياسة كما ظلم في موقفه تجاه فلسطين، وتجاه غزة تحديدا ومقاومتها.


لعب الاستقطاب الداخلي في مصر وعلى المستوى العربي دورا كبيرا في هذا الظلم، فغاب عندها التقييم الموضوعي والإنصاف.. الإنصاف عزيز كما يقال، فكيف عندما يتم التقييم  في زمن الحروب الأهلية والاستقطاب كالزمن الذي نعيش؟!

لا نقصد القول هنا أن مرسي قلب معادلة الدور المصري من الصراع العربي "الإسرائيلي" رأسا على عقب، لأن طبيعة السنة التي كان فيها في "الحكم" تجعل من غير الممكن لأي حاكم في مكانه أن يقوم بذلك كما سنبين لاحقا، ولكن بالتأكيد فإن وجود مرسي في الاتحادية ووجود زخم الثورة في الشارع غيّر الوضع بشكل كبير، وهو ما دفع الاحتلال للمشاركة في دعم الانقلاب العسكري، ليس فقط خوفا من مرسي، بل خوفا من زخم الثورة الشعبية، بغض عن النظر عمن يجلس قصر الرئاسة.

 

رئيس الانقلاب المستبد تمنى هذا الموت أكثر من أي طرف آخر


حقيبة مرسي السرية

مات الرئيس مرسي في السجن في ظروف قاهرة وظالمة، وكان واضحا أن رئيس الانقلاب المستبد تمنى هذا الموت أكثر من أي طرف آخر، لأنه يريد أن تنتهي أسرار انقلابه الدموي التي يعرفها الرئيس الشهيد، وأسرار خيانته لقسمه، والأهم أسرار سنة قصيرة/ طويلة وغامضة من حكم مرسي، بكل ما تحمله من التباسات وأحداث مثيرة، بعضها يتعلق بموضوع هذا المقال عن علاقة مرسي بالاحتلال والفلسطينيين.

كان الرئيس مرسي قد تحدث أكثر من مرة عن رغبته بالحديث لتفنيد الاتهامات الموجهة له، ولكنه اشترط الحديث بها بسرية تامة لأنها تحتوي على أسرار دولة، وطالب بحضور رئيس الانقلاب والطنطاوي وسامي عنان لجلسة يدلي فيها بهده الأسرار، وبالطبع لم تقبل المحكمة بهذا الطلب لأنها مهزلة وليست محكمة، ولأنها بنيت على الظلم من ألفها إلى يائها.

وقبل وفاته بدقائق، طالب الرئيس الشهيد مرة أخرى وأخيرة بمنحه جلسة سرية لفتح "الحقيبة السرية" التي فيها أدلة براءته، ولكنه أسلم روحه إلى بارئها بعد حديثه بدقائق. وقد حصلت "عربي21" بعد يومين من وفاته على بعض أسرار هذه الحقيبة من مصادر كانت قريبة جدا من الرئيس مرسي، أشارت إلى أن بعض الأسرار يتعلق بموقف مرسي من الالتزام بمعاهدة كامب ديفيد في حالات الطوارئ التي تؤثر على الأمن القومي المصري. وبحسب هذه المصادر فإن خلافا وقع بين الرئيس مرسي والسيسي قبيل انقلاب الأخير بسبب رفضه إشراك الجيش في الهجوم على مسلحين قاموا باختطاف رجال أمن في سيناء، حيث قال السيسي للرئيس مرسي عند إصراره على الأمر أن في ذلك مخالفة لكامب ديفيد، فرد عليه الرئيس بأن يمضي بإرسال قوات لسيناء برغم ذلك، وعندها طلب السيسي كتابا رسميا من الرئيس يأمره بتنفيذ العملية ظنا منه أنه لن يفعل بسبب التزامات كامب ديفيد، ولكنه فوجئ عند إصدار الرئيس لهذا الكتاب.

اقرأ أيضا: ما هي الحقيبة السرية التي تحدث عنها مرسي قبيل وفاته؟

هذه الحادثة تظهر أحد أوجه الاختلاف بين الرئيس مرسي وبين من سبقوه من الرؤساء، وبالتأكيد بينه وبين السيسي، فمرسي هو الرئيس الوحيد الذي أصدر أمرا يخالف اتفاقيات كامب ديفيد بدون التنسيق مع جيش الاحتلال، فيما التزم السادات ومبارك بهذه الاتفاقات حرفيا، أما السيسي فهو لم ينسق فقط مع جيش الاحتلال باعترافه أكثر من مرة، بل سمح للاحتلال بالمشاركة في عمليات ضد مسلحين في سيناء.

 

تمثل هذه الفترة نموذجا على موقف الرئيس مرسي من الاحتلال وغزة والصراع برمته


العدوان على غزة 2012

شن جيش الاحتلال عدوانا داميا على قطاع غزة من 14 تشرين ثان/ نوفمبر إلى 21 من الشهر نفسه. وتمثل هذه الفترة نموذجا على موقف الرئيس مرسي من الاحتلال وغزة والصراع برمته، خصوصا إذا ما قورنت بالعدوان السابق الذي شنه الاحتلال عام 2008-2009 بعد أيام من لقاء تسيبي ليفني الشهير مع وزير خارجية مبارك أحمد أبو الغيط.


ثمة عناصر كثيرة في الموقف المصري لم تكن معهودة سابقا في هذه الحرب أهمها:

• الخطاب غير المسبوق من الرئيس مرسي تجاه العدوان، والتهديد الواضح للاحتلال الذي فهم منه احتمال التأثير على اتفاقيات كامب ديفيد. صحيح أن الخطاب لم يذكر الاتفاقية بالنص، ولكن تهديده الواضح من "غضب مصر" كان خطابا غير مسبوق من مصر الرسمية تجاه الاحتلال. 

 


• إيفاد رئيس الوزراء المصري هشام قنديل إلى غزة، حيث التقى برئيس الحكومة هناك إسماعيل هنية، واطلع على أوضاع الجرحى في المستشفيات، وتجول تحت القصف في غزة، كما قاد وزير الخارجية المصرية بتعليمات من الرئيس وفدا لوزراء خارجية عرب مع نظيرهم التركي إلى القطاع أثناء الحرب، في تظاهرة دبلوماسية لم تشهدها غزة لا قبل الرئيس مرسي ولا بعده. هذا الموقف يتناقض تماما مع سلوك الرئاسة المصرية قبل مرسي وبعده، في عدوان 2008 وعدوان 2014 على سبيل المثال.


• قيادة عملية تفاوض غير مباشرة بين المقاومة والاحتلال بتوافق مع الولايات المتحدة، لعبت فيها مصر دورا مؤيدا للمقاومة الفلسطينية، فيما كانت في الحروب السابقة تلعب دورا أقل ما يقال عنه أنه "محايد" بينما أصبح "متواطئا" بعد انقلاب السيسي. بالطبع ما يتوقعه العربي أو يتمناه هو موقف أكبر من هذا، ولكن المقارنة بين سلوك الرئيس مرسي وسابقيه ولاحقيه تلعب لصالحه.

 

• فتح معبر رفح لوفود إعلامية وطبية وخيرية ونقابية مصرية وعربية أثناء الحرب، ما شكل ضغطا سياسيا عالميا على الاحتلال، وأعطى الفلسطينيين زخما من الدعم العربي

 

لم يكن موقف الرئيس مرسي إذن من العدوان على غزة عام 2012 تقليديا




لم يكن موقف الرئيس مرسي إذن من العدوان على غزة عام 2012 تقليديا، ولم يكن "ثوريا" أو "انتحاريا" أيضا، وعلـى الرغم من ذلك فهو يشير إلى سلوك مختلف في السياسة المصرية كان يمكن له أن يتطور تدريجيا لو استمرت مرحلة الانتقال في مصر، فلولا هذا السلوك لما انتهى العدوان خلال أسبوع فقط في حين استمر لمدة أطول بكثير في عام 2014.

"صديقي العزيز بيريز"؟!

إذا أرنا أن نعطي مثالا عن القراءة التعسفية للأحداث وغياب الموضوعية والتعقل والإنصاف في السياسة، فلن نجد أفضل من قصة خطاب تعيين سفير مصري في الكيان المحتل في عهد الرئيس مرسي.

 

استخدم هذا الخطاب الذي وردت فيه جملة "بروتوكولية" هي "صديقي العزيز بيريز" للهجوم على مرسي أثناء "رئاسته" وبعد الانقلاب عليه وبعد مماته!


جرى ويجري هذا مع أن أي "عاقل" يمكن أن يدرك أن الأمر ليس سوى مجرد مؤامرة صغيرة أو خطأ "إجرائي" في أسوأ الأحوال. إذ كيف لكتاب رسمي صادر عن الرئاسة أن يصل للإعلام نصا وصورة إذا لم يكن الأمر مدبرا؟ وكيف يسمح للإعلام المحكوم من الأجهزة "السيادية" أن يسمح بإفشاء "أسرار دولة" إذا لم يكن هو شريكا في المؤامرة؟


بتنا نعرف الآن بعد الانقلاب، بحسب رواية الأستاذ سيف عبد الفتاح الأكاديمي والسياسي الوطني والكاتب في عربي21، أن ما جرى هو بترتيب من قائد في الحرس الجمهوري، وغالبا بأوامر من رئيس الانقلاب. وضع هذا القائد المسؤول عن البروتوكول رسالة "بيريز" ضمن رسائل البريد المتعلقة بالتهاني والمجاملات والتي يوقعها الرئيس دون تدقيق مع أنه كان أصدر أوامر سابقا بفصل الرسائل المرسلة لتل أبيب وواشنطن عن البريد البروتوكولي لتدقيقه جيدا قبل إرساله. وقع مرسي الرسالة دون تدقيق، ثم تكفلت جهات سيادية كما يبدو بتوصيلها للإعلام.

 

اقرأ أيضا: مستشار سابق لمرسي يكشف سر رسالة "عزيزي بيريز" (فيديو)

أخطأ فريق مرسي في ذلك الوقت بعدم نشر الرواية الحقيقية للقصة، واكتفى بالقول إنها رسالة بروتوكولية في رد أدى إلى إثباتها أكثر من نفيها، ولكن هذا الرد كان جزءا من استراتيجية نعتقد أنها كانت خاطئة اتبعها مرسي خلال سنة "حكمه" إذ لم يطلع الشعب على حقيقة أنه لم يكن يحكم فعلا.
تحضرني في هذا المقام قصة ذكرها لنا مصدر كان على قرب من الرئاسة أثناء "حكم" مرسي، قال لنا هذا المصدر أن عدد موظفي الرئاسة يصل للآلاف، فيما دخل مرسي للقصر ومعه فريق يتكون من ستة أشخاص فقط، فكيف لستة أشخاص أن يعملوا ويسيطروا على ستة آلاف موظف يعادي معظمهم الرئيس الجديد؟ بل إن هؤلاء الستة كانوا يعانون بحسب المصدر في تنفيذ أبسط المهمات الإدارية، لدرجة أن موظفي "الفاكس" كانوا يعطلونهم بالادعاء أن الجهاز معطل ولا يمكن الإرسال منه!

 

الخصوم في مصر كانوا حريصين على الإساءة لمرسي بل وتعطيله لأبعد الحدود


سياقات تقييم تجربة مرسي

في الأحداث الثلاثة التي ساقها المقال لدراسة تجربة الرئيس مرسي تجاه الصراع العربي "الإسرائيلي" لم يكن التحول في الموقف المصري جذريا جدا، ولكنه كان تحولا ملموسا وتدريجيا، يمكن لأي منصف أن يقرأه لو أراد، ولكن الاستقطاب المصري والعربي منع أي إمكانية للتقييم الموضوعي، فالخصوم في مصر كانوا حريصين على الإساءة لمرسي بل وتعطيله لأبعد الحدود، والانقلابيون كانوا يتآمرون ويقدمون الأدوات اللازمة للانقلاب على الرجل بعد حرقه شعبيا، و"الثوريون" من غير أصحاب المصالح عارضوا مرسي بشرف ولكنهم انجروا أيضا وراء ما روجت له أجهزة الانقلاب من أوهام حول الرئيس.

أما عربيا، فإن الاستقطاب الإسلامي- اليساري/ القومي الذي صنعه الخلاف الجذري حول الثورة السورية، جعل غالبية التيارات اليسارية والقومية المؤيدة لبشار الأسد تشن حملات شرسة ضد مرسي، خصوصا بعد موقفه المتشدد من الأسد وداعميه في بيروت وطهران، وهو ما جعل الماكينة الإعلامية التابعة لهذه التيارات تعمل بكل قوة لتشويه مرسي، مبتعدة عن القراءة الواقعية للأحداث، والتي تشير إلى أن مرسي كان أقرب إلى ما يسمى "محور الممانعة" في الموضوع الفلسطيني وإن اختلف معه في موضوع سوريا.

لو تخلت جميع الأطراف الفاعلة في السياسة والإعلام من التيارات التي كانت في خندق واحد ضد الأنظمة القمعية، لكان تقييم مرسي أكثر عقلانية، بالنظر إلى أن تجربته كانت "سنة يتيمة" لم يمكّن فيها أبدا من الحكم، وتعرض فيها لكل أنواع التعطيل، في ظل تراجع اقتصادي هائل ومتوقع في الفترات الانتقالية، وتظاهرات واعتصامات يومية.


كانت هذه التجربة القصيرة يمكن أن تمهد لموقف مصري يستفيد من الزخم الثوري في الشارع، موقف عنوانه ليس "مرسي" أو جماعة الإخوان التي ينتمي لها، بل عنوانه "حكم الشارع"، الذي أوقفته الثورة المضادة وسذاجة جميع الأطراف في معسكر الثورة!