كتاب عربي 21

عن السلطة وأزمة الرواتب.. سؤال المواجهة والصمود

1300x600

تخصم السلطة الفلسطينية بالضفّة الغربية 50 في المئة من رواتب موظفيها، لإدارة الأزمة المالية الناجمة عن قرصنة الاحتلال من عائدات الضريبة (المقاصة) التي يجبيها لصالح السلطة؛ بما يساوي ما تدفعه السلطة من مخصصات للمعتقلين وأسر الشهداء. وفي حين قرّرت السلطة أن تدفع مما يتوفر لديها من موارد؛ مخصصات الشهداء والأسرى كاملة، فإنّها ترفض استلام أموال الضريبة التي تستحق لها من الاحتلال إلا كاملة.

يجدر هنا تعريف غير الفلسطينيين، ممن لا يطلعون على الحيثيات الفلسطينية مباشرة، بجانب من العلاقة المالية بين الاحتلال والسلطة. فالبضائع التي يُدخلها الفلسطينيون إلى أراضي الضفّة الغربية وقطاع غزّة، سواء من داخل الأراضي المحتلة عام 1948، أو عبر الموانئ والمعابر التي تحتلها "إسرائيل"، حيث لا يملك الفلسطينيون منفذا مباشرا على العالم لا تهيمن عليه "إسرائيل".. هذه البضائع تجبي "إسرائيل" ضريبتها وتسلمها للسلطة الفلسطينية، بحسب اتفاقية باريس الاقتصادية، ومنذ ذلك الوقت، تستغل "إسرائيل" هذه الورقة لابتزاز السلطة الفلسطينية ماليّا.

يتضح مما سبق، أن جذر الأزمة المالية سياسي، وهذا بصرف النظر عن أسباب الاحتلال في اقتطاعه ما يكافئ مدفوعات السلطة للأسرى والشهداء. فقد زامن إجراء الاحتلال المزايدات الانتخابية الإسرائيلية الداخلية، ومساعي إدارة ترامب وحلفائها العرب لفرض تسوية على الفلسطينيين؛ يُصفّى فيها الحقّ الفلسطيني تماما لصالح رؤية اليمين الإسرائيلي!

 

جذر الأزمة المالية سياسي، وهذا بصرف النظر عن أسباب الاحتلال في اقتطاعه ما يكافئ مدفوعات السلطة للأسرى والشهداء

بيد أنّه، وبالإضافة للجذر السياسي، هناك جانب إجرائي في القضية. فالسلطة كانت بين خيارين؛ الأول: استلام أموال المقاصة ناقصة ثم تدفع منها مخصصات الشهداء والأسرى كاملة، وتطالب ببقية الأموال التي تسطو عليها "إسرائيل"، وهي بذلك تجمع بين رفض الإملاء الإسرائيلي وبين الحفاظ على قدر من الاستقرار المالي. ولعل بعض الأوربيين نصحوها بانتهاج هذه الطريقة في مواجهة العدوان الإسرائيلي.

أمّا الخيار الثاني، والذي اتخذته السلطة فعلا، فهو رفض استلام أموال المقاصة إلا كاملة، وهي بذلك لعلها أرادت نفي شرعية العدوان الإسرائيلي على أموال السلطة، أو أرادت تحريك المياه الراكدة بالأزمة الناجمة عن النقصّ الحادّ في موارد السلطة. وأيّا كان تفكير السلطة إزاء الأمر، فإذا كان هذا الخيار الأكثر جذريّة في مواجهة العدوان الإسرائيلي، فإنّه لم يلاحظ جملة من العوامل الهامّة التي تجعله قرارا فاعلا ذا معنى في سياق المواجهة.

أوّل تلك العوامل، هو السياق الذي يحتضن هذا الخيار. فخيار يقذف الموظفين الذين يشكّلون لبّ الدورة الاقتصادية في أتون حافّة الفقر والعوز؛ ينبغي أن يأتي في سياق المواجهة مع الاحتلال، فهل قرّرت قيادة السلطة الفلسطينية الدخول في مواجهة مع الاحتلال تقنع المواطنين بالصبر على الجوع والفاقة، وهل فعلت كل ما ينبغي فعله لهذا الغرض؟!

 

حمل الجماهير على دفع استحقاقات المواجهة مع الاحتلال يحتاج نمطا من الجماهير التي تعي مسؤوليتها التاريخية تجاه مشروع التحرير

من أجل أيّ شيء نصمد؟!

قبل الإجابة على هذه الأسئلة، ينبغي التذكير بأنّ حمل الجماهير على دفع استحقاقات المواجهة مع الاحتلال يحتاج نمطا من الجماهير التي تعي مسؤوليتها التاريخية تجاه مشروع التحرير، وهو ما يتناقض بالمطلق مع هندسة حياة استهلاكية تربط الجماهير بالسلطة والمؤسسة الاقتصادية الربوية، وبالاستناد إلى تجريف المنابر الوطنية، وتحطيم أي فاعلية وطنية، وبما يتجاوز حتّى الخصومة السياسية مع حركة حماس، إذ لا يمكننا أبدا الحديث عن أطر تنظيمية في الضفة الغربية تبث الثقافة النضالية وتطوّر الحركة الكفاحية. والظاهر أن جملة تلك السياسات كانت تهدف، في الأساس، إلى صرف الجماهير عن مسؤوليتها المشار إليها، فكيف يُطلب منها الآن تحمّل تبعات قرار السلطة المالي في مواجهة الابتزاز الإسرائيلي؟!

وثمّة ما نبغي التذكير به كذلك، وهو مشروع السلطة برمّته، الذي انتهى على المستوى السياسي إلى صفقة ترامب، وتكريس الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس، وإحلال متدرج للإدارة المدنية الإسرائيلية مكان السلطة الفلسطينية، وإلى انقسام داخلي مدمّر، وأخيرا إلى ارتهان اقتصادي كامل للابتزاز الإسرائيلي، وتخلٍّ عربيّ فاضح، بل ومتآمر، وهو ما يستدعي إعادة النظر في هذا المشروع، على أساس من الوحدة الوطنية النضالية، وفي سياق متدرج لتهيئة الجماهير لاستعادة دورها النضالي.


ثمّة ما نبغي التذكير به كذلك، وهو مشروع السلطة برمّته، الذي انتهى على المستوى السياسي إلى صفقة ترامب، وتكريس الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس، وإحلال متدرج للإدارة المدنية الإسرائيلية مكان السلطة الفلسطينية

فإذا كانت السلطة الفلسطينية قد قرّرت إدارة الابتزاز المالي الإسرائيلي في سياق مواجهة متصاعدة مع الاحتلال، فإنّ أول ما يحتاجه ذلك هو البدء في تحويل سياسات السلطة، من صرف الجماهير عن واجبها النضالي، إلى إعادة تأطير تلك الجماهير وتنظيمها من خلال حركة فتح في مشروع مدروس من المقاومة الشعبية الفاعلة والواسعة. ولأنّه لا يمكن لأي مقاومة شعبية أن تحقّق أغراضها في ظل انقسام أفقي وعمودي، وبعد فرض الترهل على الجماهير سنين طويلة، فإنّ الخطوة الأولى تكون بالتصالح الداخلي المجتمعي والوطني، وبتغيير الخطاب والسياسات، وإشعار الجماهير بإرادة المواجهة.

إشعار الجماهير بإرادة المواجهة لا يمكن أن يتحقق دون كسب ثقة تلك الجماهير، ووضع قيادة السلطة بكل فروعها، وقيادة حركة فتح، التي تشكّل الإطار الشعبي للسلطة، نفسها في مقدمة المواجهة، لكن من يريد ذلك؛ هل يرفع رواتب الوزراء الثلثين بعدما خصم نصف رواتب الموظفين؟! صحيح أن الرئيس الفلسطيني ألغى هذا القرار، لكن هذا القرار كانت حكومة رئيس الوزراء السابق قد اتخذته في ذروة اتضاح الأزمة وقرار خصم الرواتب؟!

بين المواجهة والمراوحة في المكان

المؤكد أنّ فكّ الارتباط الاقتصادي بـ"إسرائيل"، وهو ما هددت به السلطة من خلال أطر منظمة التحرير وحركة فتح كثيرا، بل وأعلنت عن قرارات في ذلك دون أن تطبق منها شيئا، هو الخيار الصحيح ضمن مشروع مواجهة متدرج مع الاحتلال له متطلباته على المستوى السياسي والتنظيمي، وله متطلباته على المستوى الشعبي والجماهيري، بما في ذلك تحمّل التبعات المالية والاقتصادية. لكن وطالما أن السلطة لا تفكّر بانتهاج المواجهة حتّى اللحظة، فقد تكون مدعوة لإعادة النظر في آلية التعامل مع الأزمة المالية الحالية، لمخاطرها التي لم تستعد لها أبدا كما يبدو.

 

الانهيار المفاجئ، ودون الاستعداد لترتيبه وإدارته، ووضع الجماهير التي فُرض عليها الترهل داخل أزمات مجتمعية طاحنة نتيجة فقدانها لمواردها الاقتصادية، وإحلال الإدارة المدنية الإسرائيلية بضباطها وعملائها مكان السلطة الفلسطينية.. أسوأ من هذا الوجود

فرغم كل الملاحظات على السلطة، وجودا في الأساس، ومهمة ووظيفة وسياسات، فإنّ الانهيار المفاجئ، ودون الاستعداد لترتيبه وإدارته، ووضع الجماهير التي فُرض عليها الترهل داخل أزمات مجتمعية طاحنة نتيجة فقدانها لمواردها الاقتصادية، وإحلال الإدارة المدنية الإسرائيلية بضباطها وعملائها مكان السلطة الفلسطينية.. أسوأ من هذا الوجود الذي رفضه بعضنا في الأساس، وما يزال بعضنا، أو أكثرنا اليوم، يرفض سياساته.

كما أن المراهنة على تحريك المياه الراكدة واستجلاب المزيد من الدعم بالتحذير من انهيار السلطة وتحميل الموظفين عبء مناورة كهذه، ورغم خطئها أساسا، فإنّها غير مجدية، ولا تنطوي على أيّ فائدة، كما هو ظاهر الآن، ومع أن انشغال الاحتلال بانتخاباته الداخلية، وعدم قدرة حكومته على اتخاذ خطوات جذرية؛ فرصة لإعادة النظر في السياسات القائمة، فإنّ السلطة لا تفعل شيئا.

والحاصل، أن ما يجري ليس أكثر، ومع الأسف، من المراوحة في المكان، وهو ما يضرّ بالسلطة نفسها، وقد يفضي إلى انهيار مفاجئ يدفع الفلسطينيون ثمنه، ويعبئ مكانه الاحتلال وعملاؤه. وعلى ذلك، ومنعا لخطر أكبر، فإمّا أن تعيد السلطة النظر جزئيّا في سياستها القائمة تجاه الأزمة المالية الجارية، أو تعيد النظر في مجمل مشروعها وسياساتها، في إطار من الوحدة الوطنية والاستعداد لمواجهة متدرجة ومدروسة، أمّا المعاناة المجرّدة من المواجهة فلا معنى لها أساسا، هذا فضلا عن استفادة الاحتلال منها.