قضايا وآراء

طهران ومعضلة التفاوض مع واشنطن

1300x600

بعد اقترابهما من الهاوية، بدأت تهدأ التوترات بين إيران والولايات المتحدة خلال الفترة القصير الأخيرة، يعكسها تراجع لغة التصعيد والتهديد المتبادلة للطرفين بشكل ملحوظ، وتأكيداتهما المتكررة على عدم وجود رغبة لديهما في الحرب. 

 

رغبات أمريكية بالحوار


لكن الهدوء هذا لا يعني أن البديل عن التهديد والحرب، أي الدبلوماسية والتفاوض أصبح في المتناول، وأن طهران وواشنطن تذهبان بهذا الاتجاه. أقله حتى اللحظة. وذلك لأن طهران لا تزال تصر على موقفها الرافض لإجراء أي مفاوضات مع الإدارة الأمريكية الحالية، التي لم يفوت رئيسها دونالد ترامب الأسابيع الأخيرة، أي فرصة إلا ويؤكد فيها على رغبته في التفاوض مع الإيرانيين، من خلال إطلاق دعوات متكررة له، اتخذت طابع المغازلة والاستجداء أحيانا.

 

أعلن وزير خارجيته مايك بومبيو، أن الإدارة الأمريكية مستعدة للتفاوض مع إيران من دون شروط مسبقة،


أتت الدعوات الأمريكية الصريحة للتفاوض مع إيران، بعد أن أخفقت الإدارة الأمريكية خلال العام الذي تلا انسحابها من الاتفاق النووي في إجبارها على الجلوس على طاولة التفاوض بشروطها، تحت وطأة الضغوط السياسية والاقتصادية وأخيرا العسكرية، والتي دفع اشتدادها طهران إلى الابتعاد قليلا عن قاعدة "الصبر الإستراتيجي" التي ظلت متمسكة بها خلال العام الأخير، عبر تقليص مرحلي لتعهداتها النووية المنصوصة عليها في الاتفاق النووي، وكذلك تفعيل أوراقها الإقليمية لممارسة الضغط على الجانب الأمريكي وحلفائه في المنطقة، بالاقتراب من مصالحهم الحيوية الحساسة، الأمر الذي لم تتوقعه، لا الإدارة الأمريكية ولا السعودية والإمارات، اللتين دخلتا رسميا وعلنيا في الحرب الاقتصادية الأمريكية على إيران من خلال الإعلان عن التعويض عن أي نقص ينجم عن الحظر التام لقطاع النفط الإيراني، اعتبارا من الثاني من أيار/ مايو الماضي. 

واللافت أنه بعد أن دخلت إيران مرحلة تنفيذ تهديداتها بمواجهة الضغوط الأمريكية، وخاصة بعد أن طاولت هي المحرّم إيرانيا من خلال وقف الإعفاءات الممنوحة سابقا لشراء النفط الإيراني، تزايدت دعوات ترامب بشتى الطرق للتفاوض مع الإيرانيين من جهة، وانطقلت تحركات دبلوماسية إقليمية ودولية على نطاق واسع من جهة أخرى، هي تحركات في غالبها مدعومة أو مدفوعة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية.

 

اليابان مرشحة للوساطة

لم تكتف واشنطن بالدعوات فحسب، بل شفعتها برسائل طمأنة للجانب الإيراني بغية إقناعه بالتفاوض، ولعل تصريحات من العاصمة اليابانية طوكيو، المرشحة للعب دور الوساطة بين الطرفين، شكلت استدارة واضحة، أقله في التصريحات الأمريكية تجاه طهران، حيث أكد الرئيس الأمريكي فيها، أن إدارته ليست بصدد تغيير النظام الإيراني، مشيدا في الوقت نفسه بالقيادة الإيرانية الحالية. 

 

المغازلات والإغراءات الأمريكية، لم تغير موقف إيران الرافض للدخول في أي مفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية


وسط هذه المغازلة الترامبية، أعلن وزير خارجيته مايك بومبيو، أن الإدارة الأمريكية مستعدة للتفاوض مع إيران من دون شروط مسبقة، في تخلي واضح عن الشروط الـ 12 التي طرحها الوزير نفسه بعيد انسحاب بلاده من الاتفاق النووي في أيار (مايو) 2018، وجدد ذلك خلال الأسابيع الأخيرة قبل أن يتخلى عنها كشروط مسبقة للتفاوض. وهي شروط تمس صلب القدرات أو أوراق القوة التي تمتلكها طهران، منها ما يرتبط بالقوة الصاروخية "الرادعة"، والنفوذ الإقليمي، والبرنامج النووي وكذلك الموقف من الصراع مع الكيان الإسرائيلي. 

لكن هذه المغازلات والإغراءات الأمريكية، لم تغير موقف إيران الرافض للدخول في أي مفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية، واصفة عروضها هذه بـ"خدع أمريكية"، وهو ما أكد عليه المرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، قبل أيام. كما أعلنت طهران أن المعيار بالنسبة لها ليس تغيير اللهجة وإنما تغيير السلوكيات والسياسات. 

 

إما الحرب أو السلام

أمام هذا الإصرار الإيراني برفض أي مفاوضات مع الإدارة الأمريكية، عاد ترامب قبل أيام بشكل خجول إلى التأكيد على معادلة "إما الحرب أو السلام" بشروط أمريكية، بعدما أكد خلال مقابلة مع قناة "آي . تي . في" البريطانية، أنه يريد الحديث مع نظيره الإيراني، حسن روحاني، لكنه أبقى على الخيار العسكري قائما، بقوله إنه "احتمال وارد دائما".

إيران لا ترفض التفاوض مع الولايات المتحدة من حيث المبدأ، حيث لم يعد ذلك محرّما في السياسة الإيرانية، وأنها خاضت جولات تفاوض معها خلال العقدين الأخيرين، كان آخرها وأهمها هو الذي انتهى إلى التوقيع على الاتفاق النووي عام 2015. والملاحظ في التصريحات الإيرانية أنها تؤكد على رفض التفاوض مع الإدارة الأمريكية الراهنة، أي أنها لا تمانع في خوض هذا المسار مجددا مع الإدارة القادمة، إن انتخب لها رئيس آخر غير ترامب، أو أن يغير الأخير سياساته وسلوكه.

 

إيران لا ترفض التفاوض مع الولايات المتحدة من حيث المبدأ، حيث لم يعد ذلك محرّما في السياسة الإيرانية،

 
باعتقادي فإن مردّ الرفض الإيراني للتفاوض بشكل مباشر مع إدارة ترامب، ليس لأنه قد نكث بالاتفاق النووي وأعاد فرض العقوبات على إيران فحسب، وإنما ثمة اعتبارات أخرى، ربما هي أكثر أهمية وراء هذا الرفض، تتمثل أولا في أن طهران لا تثق بتاتا بترامب وتشكك في نواياه الحقيقية من طرح مسألة التفاوض، مع وجود توجس لديها أن كل ما يهم الرئيس الأمريكي في الوقت الراهن هو توظيف المفاوضات في حملته الانتخابية القادمة وإظهار نفسه منتصرا وإيران خاسرة ومهزومة.

وثانيا أن إيران تعلم جيدا أنه في أي تفاوض مباشر ستجد الشروط الـ 12 حاضرة على الطاولة، وإن ألغيت كشروط مسبقة على طريق بدء المفاوضات، وثالثا أن الدخول في أي مفاوضات مباشرة جديدة مع إدارة ترامب يعني الاعتراف بشكل أو آخر بانسحابه من الاتفاق النووي والضغوط التي مارسها ضد إيران بعد الانسحاب، الأمر الذي لا يضر بمصداقيتها فحسب، وإنما يضعف موقف المعارضين لسياسات ترامب تجاه هذا الاتفاق في الداخل الأمريكي وخارجه.

بالتالي باعتقادي فإن واشنطن ليست جادة في طرح موضوع التفاوض مع إيران، وإنما هدفها في موازاة مواصلة ضغوطها الاقتصادية والسياسية على طهران، هو إرباك الحسابات الإيرانية أولا، وضغط عليها دوليا ثانيا، وضبط الردود الإيرانية على تعاظم هذه الضغوط ثالثا، وأخيرا، توظيف الموضوع داخليا في الانتخابات الأمريكية إن قبلت إيران بالتفاوض ودخلتها.

وفي الإطار، تأتي التحركات الإقليمية والدولية المدفوعة أمريكيا، وهنا المقصود بالذات هو التحرك الألماني، والعماني والياباني، وهي تمثّل نوعا من التفاوض غير المباشر بين واشنطن وطهران، ولاتزال في بداياتها، ويستبعد أن تؤدي إلى تفاوض مباشر بين الطرفين، أقله خلال الفترة المتبقية من الولاية الأولى لترامب، إلا اذا تراجع هو عن ضغوطه الاقتصادي، وهو مستبعد أيضا.

 

طهران معنية بتخفيف الاحتقان

إلا أن إيران المرحّبة بالتحركات الدبلوماسية لتخفيف حدة الاحتقان والتوتر في المنطقة، معنية بنجاح هذه التحركات في ذلك أيضا، عسى أن تنجح هي في تخفيف العقوبات الأمريكية الشاملة، تحت وطأة رسائلها الضاغطة الأخيرة، سواء ما يتعلق بممارسة الضغط على مصالح واشنطن في المنطقة وحلفائها الإقليميين بشتى الطرق، أو ما يرتبط بالانسحاب التدريجي من الاتفاق النووي عبر القرارات المرحلية التي كشفت عنها في الثامن من أيار (مايو) الماضي، والتي بدأت مرحلتها الأولى حيز التنفيذ على أن تبدأ مرحلتها الثانية بعد شهر تقريبا، بعدما تنتهى مهلة الستين يوما، منحتها طهران في الذكرى السنوية الأولى للانسحاب الأمريكي من الاتفاق، للشركاء الخمسة المتبقيين فيه، لتلبية مطالبها بتمكينها من بيع نفطها ومعاملاتها المصرفية.

ستنتقل التحركات الدبلوماسية الدولية لفتح مسار للحوار بين طهران وواشنطن، إلى مرحلة جديدة بعد زيارة وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس ورئيس الوزراء الياباني، شينزوا آبي، إلى إيران خلال هذا الأسبوع، إلا أن الرهان على هذه التحركات لإطلاق تفاوض مباشر بين الجانبين في مستقبل قريب، وإنهاء التوتر بينهما لا يبدو منطقيا في ظل الصعوبات والتحديات الجسام التي تعترضها، وأقصى ما يمكن أن تثمر عنه هذه التحركات في سياق إستراتيجية واشنطن لإدارة هذا التوتر وفق متطلبات المرحلة الراهنة، هو تخفيف جزئي لبعض العقوبات مثلا منح إعفاءات لبعض مشتري النفط الإيراني كاليابان لمواصلة شرائه، بغية ضبط إيقاع المواجهة والردود الإيرانية على الحرب الاقتصادية خلال هذه المرحلة. 

كما أن إيران المطمئنة من عدم إمكانية شن حرب عليها، ليس أمامها خيار إلا المقاومة والصمود في وجه الضغوط الأمريكية، ومواصلة ممارسة سياسة إيجاد حالة توازن في مواجهة هذه الضغوط، وبالذات إقليميا، بالتالي وإن شهد التوتر الحالي بين واشنطن وطهران تهدئة ما لأسباب آنفة الذكر، فإنه سيبقى قائما ومرشّحا للتصاعد مجددا في أي وقت. بالتالي يمكن القول إن الطرفين سيواصلان لعبة عض الأصابع من دون الانزاق نحو هاوية الحرب، على أمل هزيمة الآخر ودفعه للتراجع، مع انعدام فرص حقيقية في الوقت الراهن للوصول إلى حلول مرضية للجانبين، لأن ما تريده واشنطن في النهاية هو فرض سلام على إيران بشروطها، بعد أن تجاوزت مع مجيء ترامب إلى السلطة قاعدة "لا حرب ولا سلام" القائمة منذ أربعة عقود، وهذا مرفوض إيرانيا جملة وتفصيلا.