قضايا وآراء

الجيش المصري من الحرب إلى السياسة

1300x600

فارق كبير بين نظرة المدنيين للعسكريين، والعكس. في الأولى ينظر المدنيون لجيوشهم الوطنية نظرة تقدير واحترام، ورغبة في رؤية تلك الجيوش في المراتب الأولى عالميا، شريطة أن تقتصر في عملها على شؤون الدفاع والأمن القومي والمساعدة في الكوارث. أما العسكريون، خاصة في بلداننا العربية ومصر في طليعتها، فهم ينظرون للمدنيين باعتبارهم شعب الجيش، وأن الوزراء والمحافظين ورؤساء الهيئات المدنية، بل إن كل الموظفين المدنيين، هم فقط معاونون للجيش الذي يرى نفسه مالك البلاد وسيدها، وصاحب الأمر والنهي فيها.

يعرف الكثيرون أن هذه قناعة راسخة لدى رجال المؤسسة العسكرية؛ يتم تلقينها لهم في مدارسهم ومعاهدهم العسكرية وممارساتهم العملية. وقد سمعت بأذني تلك القناعات من أحد لواءات المخابرات الحربية، في دورة تثقيفية لعدد من الصحفيين والإعلاميين أواخر التسعينيات في أكاديمية ناصر العسكرية العليا، متحدثا باستعلاء عن المدنيين الذين لا يفهمون في إدارة الدولة، ومشككا في وطنية أحزاب المعارضة وصحفها التي رآها مصدرا خصبا لتزويد العدو بالمعلومات بسذاجة وبالمجان.

 

بعد ثورة يناير تغيرت الأوضاع، ووجدت المؤسسة العسكرية نفسها بشكل مفاجئ أمام شعب ثائر يريد فرض إرادته

بعد ثورة يناير تغيرت الأوضاع، ووجدت المؤسسة العسكرية نفسها بشكل مفاجئ أمام شعب ثائر يريد فرض إرادته، ومعرفة كل ما يحدث في بلده، بما في ذلك وضع المؤسسة العسكرية وميزانياتها.. الخ. وكم كانت مهيبة تلك اللحظة التي وقف فيها رأس المؤسسسة العسكرية المشير حسين طنطاوي، رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة في ذلك الوقت، مؤديا التحية العسكرية لأول مرة في تاريخ مصر الحديث؛ لأول رئيس مدني تصادف أيضا أنه ينتمي لتيار سياسي كان محل شكوك، كغيره من القوى السياسية، من قبل المؤسسة العسكرية التي كانت ترى نفسها فوق الجميع.


الآن، وبعد 46 عاما من حرب أكتوبر- رمضان 1973 التي تهل ذكراها علينا، تغيرت أوضاع المؤسسة العسكرية كثيرا، فلم يعد الكيان الصهيوني هو العدو كما كان يصنف من قبل (كانت كلمة العدو تعني مباشرة إسرائيل دون الحاجة لذكرها)، بل إن ذاك العدو أصبح صديقا بل حليفا للنظام العسكري الحاكم في مصر، أكثر من ذلك اصبح هو الكفيل الأول الذي تحرك لدعم انقلابه في الثالث من تموز/ يوليو 2013، والذي سعى لتسويقه دوليا، خاصة في الولايات المتحدة والغرب، والذي لا يزال يمثل الداعم السياسي الأكبر له حتى الآن، بل إنه تدخل عسكريا لدعمه في سيناء حين وجده في أزمة مع عصابات داعش.

كانت مصر موجودة منذ سبعة آلاف سنة، قبل أن يوجد الجيش الحديث الذي أسسه عهد محمد علي على يد القائد الفرنسي سليمان باشا الفرنساوي، وهذا يرد على قناعة الكثيرين داخل المؤسسة العسكرية أن الجيش هو الذي أسس مصر الحديثة، أو تلك المقولة التي راجت "إن مصر هي جيش له شعب، وليس شعب له جيش". لا ينكر أي عاقل دور الجيش في تحرير الوطن وحماية استقلاله، ولا ينكر عاقل ما حققه الجيش من نصر عسكري ولو جزئي في السادس من أكتوبر- العاشر من رمضان 1973، وهو النصر الذي وظفه الرئيس الأسبق أنور السادات للوصول إلى تسوية سياسية مع الكيان الصهيوني؛ كانت محل رفض واعتراض غالبية الشعب المصري وقواه الحية، ودفع الرجل ثمنها حياته في الذكرى ذاتها عام 1981، ولكن لا ينكر عاقل أيضا أن العقيدة العسكرية للجيش قد جرى تغييرها من قبل طغمة هيمنت على قيادته، فأصبح بموجبها العدو صديقا والصديق عدوا، وتم جر الجيش إلى مستنقع السياسة عبر الانقلاب على أول رئيس مدني منتخب، ثم تم جره ليغرق في بحر الاقتصاد والمشروعات التجارية، وليهيمن على كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية وحتى الإعلامية.

 

العقيدة العسكرية للجيش قد جرى تغييرها من قبل طغمة هيمنت على قيادته، فأصبح بموجبها العدو صديقا والصديق عدوا، وتم جر الجيش إلى مستنقع السياسة

تلك الهيمنة التي فرضها الجيش بعد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013؛ تمت بسياسة الأمر الواقع دون أي سند دستوري، لكن المؤسسة العسكرية خطت خطوة جديدة لتثيت هيمنتها دستوريا عبر إدخال تعديل دستوري (المادة 200) ضمن التعديلات الأخيرة، يمنحها حق الوصاية على الحياة السياسية والمدنية، ويعطيها حق التدخل "لصون الدستور والديموقراطية والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد"، وهو الوضع الذي كان يتعامل به الجيش التركي حتى سنوات قليلة مضت. ويبدو أن هذا التعديل مع تعديلات أخرى (مثل حقه في الموافقة على تعيين وزير الدفاع)  كان في إطار صفقة بين المؤسسة العسكرية، ممثلة في مجلسها الأعلى، وبين مؤسسة الرئاسة التي دفعت لتعديل النص الخاص بمدة رئيس الجمهورية، لتفتح الباب للسيسي للبقاء في سلطته المغتصبة حتى العام 2030.

وفقا للنص الدستوري الجديد، أصبح من حق الجيش التدخل حسب هواه وتفسيره لتطورات الأحداث، ويمكنه تغيير الحاكم نفسه بمذكرة  كما كان يفعل الجيش التركي، ويمكنه تفسير النصوص الدستورية متخطيا حتى المحكمة الدستورية ذاتها، ولا يمكن استبعاد تدخله لتغيير السيسي نفسه إذا تضاربت المصالح بين الطرفين.

هيمنة المؤسسة العسكرية على المجال الاقتصادي بلغت ذروتها، وتم إصدار تشريعات من البرلمان لتقنينها، ووصلت إلى تفاصيل الحياة اليومية للمواطنين مثل صناعة المكرونة، والمزارع السمكية، والزيوت والصابون.. إلخ، في منافسة قاتلة للقطاع الاقتصادي المدني بشقيه العام والخاص، وهو ما زرع غضبا مكتوما في نفوس رجال الأعمال الذين أصبح عليهم أن يقبلوا رغم أنوفهم؛ العمل من الباطن مع القوات المسلحة في كل المشاريع الكبرى والمتوسطة، مثل الطرق والكباري والمصانع.. الخ، ولا يهم بعذ ذلك أن الكثير من الشركات والمصانع الخاصة أو حتى العامة تعرضت للإفلاس والإغلاق، أو على الأقل تصفية عمالتها.

 

لم يقتصر الأمر على الهيمنة على المشروعات الاقتصادية والصناعية، بل وصلت الهيمنة العسكرية إلى مجالي الثقافة والإعلام

لم يقتصر الأمر على الهيمنة على المشروعات الاقتصادية والصناعية، بل وصلت الهيمنة العسكرية إلى مجالي الثقافة والإعلام، حيث ظهرت هذه الهيمنة من خلال الشركات (الواجهات) المدنية التي أسستها المخابرات العامة والحربية للسيطرة على سوق الإعلام والسينما والدراما، وأصبحت شركة "إعلام المصريين" المملوكة للمخابرات عنوانا لهذه الهيمنة. فهذه الشركة القابضة تضم شركات متخصصة في الإعلام؛ هي التي اشترت أو أسست العديد من القنوات والمواقع الصحفية، كما تضم شركة للإنتاج السينمائي والتلفزيوني، وقد فرضت هذه الأخيرة هيمنتها على مسلسلات رمضان هذا العام (التي تبث جميعها الرؤية والرواية المعتمدة من المؤسسة العسكرية).

احترام الجيش الوطني هو شعور فطري لدى أي مصري، فلا يوجد بيت ليس له ضابط أو مجند في الجيش، ولكن ليس من الخطأ نقد القيادات المهيمنة على المؤسسة العسكرية والتي توردها المهالك، وتدخلها في خصومات مع الشعب أو قطاعات واسعة منه، والتي جعلتها أضحوكة بجرها لمجالات بعيدة عن تخصصها (مثل قائد خط الجمبري وغيره)، بل إن هذا النقد هدفه استعادة الصورة البهية للمؤسسة العسكرية وإبعادها عن السياسة التي هي محل تنافس بين الأحزاب عبر صناديق الانتخابات، وليس صناديق الذخيرة.