كتاب عربي 21

الكتلة التاريخية الجديدة

1300x600

يشكل مفهوم الكتلة التاريخية مبدأ مُهمًّا في التحليل الاجتماعي والسياسي لتطور الشعوب والمجتمعات بشكل عام، وهو يعني تكوّن بنية اجتماعية متحركة وفاعلة في مرحلة تاريخية معينة. هذه الكتلة الفاعلة تتأسس على فعل مشترك مؤسَّس على وعي مشترك يهدف إلى تحقيق أهداف معينة، وهو ما يمكن أن نلحظ تشكله اليوم في المنطقة العربية مشرقا ومغربا ضمن ما يسمى ثورات الشعوب أو الربيع العربي. فالحركة الاجتماعية القاعدية التي انطلقت من تونس ثم امتدت مشرقا نحو ليبيا فمصر فسوريا فاليمن ثم السودان والجزائر في مرحلة موالية، تمثل في نظر كثير من الملاحظين كتلة واحدة رغم التباين الجغرافي بين مكوناتها الصغرى. 

الأمة وأزمة الفعل الحضاري

قد لا يختلف إثنان في أن العرب هم من بين آخر الأمم التي لا تزال ترزح تحت وطأة الحكم الاستبدادي الفردي المطلق سواء في شكله العسكري أو الوراثي أو الجمهوري الأمني. وهي كذلك من بين آخر الأمم التي لم تنجح في تحقيق نقلة حضارية تخرج بها من حالة المفعول به حضاريا إلى مرحلة الفعل الذي يتأسس أول ما يتأسس على تحقيق مقولة الحرية المقرونة بالعدالة الاجتماعية والوعي بهما.

 

ثبت اليوم أن خروج الاستعمار العسكري من الدول العربية لم يكن إلا مقدمة لشكل جديد من الاستعمار الداخلي


لكن المفارقة الكبيرة إنما تكمن في كون الأمة العربية الإسلامية تملك مخزونا ضخما من الفعل التاريخي والحضاري على مختلف الأصعدة بشكل لم تملكه الأمم الأخرى عبر التاريخ. فسواء تعلق الأمر بالفعل المعرفي العلمي أو الفعل العسكري أو الفعل العقدي فإن شعوب هذه المنطقة هي من أكثر الشعوب فعلا تاريخيا على مدار أكثر من عشرة قرون. 

يملك العرب رصيدا هائلا من أسباب النهضة كما يستحوذون تقريبا على النصيب الأكبر من أسباب النهوض الحاضرة في مختلف الأشكال المعرفية التي أبدعها العقل العربي الإسلامي طوال قرون من الزمان.  وهي الأشكال التي تجعل من فكرة الحرية والتحرر والنهضة والنهوض حجر الزاوية في فعل هذا العقل وتطوره رغم كل النكسات والإخفاقات التي سُجلت في المراحل الأخيرة من عمر شعوب هذه المنطقة.

هنا يظهر موطن الخلل الحضاري متمثلا في أزمة الفعل السياسي أساسا بما هو في نظرنا أحد أهم أسباب الشلل الذي أصاب الفعل الحضاري العام للأمة ولشعوبها، وهو شلل يعود إلى مرحلة سابقة للفترة الاستعمارية الأوروبية بكثير. بمعنى أن عدم قدرة شعوب المنطقة عن تفعيل شروط النهضة الحضارية لا يعود في الحقيقة إلى غياب الرافعة المعرفية العلمية أو التاريخية الحضارية بل يعود أساسا إلى تكلس الفاعل السياسي ونجاحه في منع تفعيل هذه الرافعة. 

الواقع الجديد

قد يقول قائل إن مرحلة استقلال الأقطار العربية في منتصف القرن الماضي هي التي تمثل نهاية مرحلة وبداية ما سمي بالنهضة مع رواد الفكر الإصلاحي في مصر والشام والمغرب الكبير. لكن يبدو اليوم أن هذه الفترة لم تنجح في تشكيل كتلة تاريخية حقيقية قادرة على تجاوز المراحل التي سبقتها وإحداث فارق حضاري.
 
لقد ثبت اليوم أن خروج الاستعمار العسكري من الدول العربية لم يكن إلا مقدمة لشكل جديد من الاستعمار الداخلي الذي كرّس تكلّس الفعل السياسي بما هو مفتاح التغيير الحقيقي وأحد أهم أسباب النهضة. فلو قارنّا حال الأمة بوضع أمم كثيرة في تلك الفترة وما صارت عليه اليوم، لأدركنا أن الاستقلال لم يكن إلا وهما وكذبة كبيرة لأنه فتح الباب أمام أنظمة استبدادية قمعية كرست واقعا أسوأ من الواقع الذي فرضته المنظومات الاستعمارية جميعها.

بل لا نكاد نبالغ إذا قلنا إن الواقع الذي فرضته المنظومات الاستبدادية في المرحلة التي سمّيت زورا بالاستقلال يفوق في آثاره الحضارية السلبية كل الإرث الاستعماري. إن ما فعله الاستبداد يتجاوز بكثير الآثار المدمرة التي خلقتها كل الكيانات الاستعمارية بالمنطقة لأنه فعل داخلي أشد شراسة وأشد بطشا من الفعل الخارجي.
 
لقد احتاجت شعوب المنطقة أكثر من نصف قرن لتفيق من وهم الاستقلال ولتدرك بوضوح أن الكيانات التي خلفت الاستعمار ليست في حقيقتها إلا امتدادا طبيعيا للفعل الاستعماري نفسه الذي غيّر من طريقة هيمنته على المنطقة. 

الثورات العربية ونشأة الكتلة التاريخية


يمكن القول اليوم إن ما يحدث في البلاد مشرقا ومغربا دليل قاطع على أن كتلة تاريخية حقيقية وفاعلة قد تشكلت بوعي جديد وبقدرة كبيرة على الفعل. فليست المسألة إذن مجرد ثورات شعبية متعاقبة تتمدد وتتفاعل بل إن المسألة تتمثل في تشكل موجة حضارية تتجاوز المستوى القطري لتشمل الأمة كلها وتعمل على تحقيق أهداف محددة.
 
رأس أهداف الكتلة التاريخية هو تجاوز عطالة الفعل السياسي بما هو السبب الأساسي للانحدار الحضاري الذي سقطت فيه المنطقة وعجزت عن مغادرته.
 
إن شعار " الشعب يريد إسقاط النظام " يمثل في نظرنا الترجمة الحرفية لهذا الهدف وهو يشير بوضوح إلى وعي الموجة الشعبية بموطن الخلل في البناء الحضاري للأمة.

بناء على ما تقدم فإن الحرب التي تشنها القوى المعادية للثورات وهي القوى المعادية للكتلة التاريخية هي حرب عبثية، لماذا؟

لا يمكن منطقيا مواجهة كتلة تاريخية ما إلا بإنشاء كتلة مقابلة أو موازية أي إنشاء بديل حضاري للمنوال الذي تطالب به الموجة الشعبية وهو الأمر الذي أغفلته قوى الثورة المضادة. لا يملك النظام الرسمي العربي اليوم أية بدائل عن النظام الاستبدادي الذي يستميت عبثا في محاولة إعادة إنتاج نفسه مستعملا نفس الوسائل والآليات القديمة التي هي بصدد التداعي والسقوط.

 

رأس أهداف الكتلة التاريخية هو تجاوز عطالة الفعل السياسي بما هو السبب الأساسي للانحدار الحضاري الذي سقطت فيه المنطقة وعجزت عن مغادرته.

 
إن هذه المحاولات التي تترجم على الأرض بالانقلابات العسكرية وبإعادة انتاج الاستبداد بنفس الوسائل القمعية يؤكد أن السلطة السياسية العربية قد وصلت إلى نقطة الانقطاع واللاعودة. فرغم كل الاإمكانات والأموال التي صُرفت في سبيل القضاء على الموجة الثورية الأولى فإن الكتلة التاريخية بصدد التجدد في الجزائر وفي السودان وفي ليبيا وهو ما يسمح بالقول بأننا نعيش اليوم بداية الفعل الحضاري الجديد للمنطقة وأن المرحلة الجديدة على المدى البعيد ستكون مختلفة تماما عمّا سبقها.