قضايا وآراء

عمليات سبر الآراء: انفلات تشريعي ودور "مشبوه"

1300x600

مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية المقررة أواخر هذا العام، يتزايد الجدل في تونس حول غياب إطار قانوني عام ينظم عمليات سبر الآراء. فمع كل ظهور لاستطلاعات الرأي العام حول نوايا التصويت، تثار الكثير من نقاط الاستفهام المتعلقة ببعض مؤسسات سبر الآراء، خاصةً مع وجود شبهات جدية حول ارتباط أصحابها بدوائر المال والسياسة. ورغم الارتباط الجذري لكل شيء بالسياسة، كما قال الفيلسوف سبينوزا، فإن الرهانات المرتبطة بنتائج عمليات سبر الآراء تتجاوز الحقل السياسي بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، لتمسّ الحقل الاقتصادي، خاصة في ما يتعلق بنسب المشاهدة أو الاستماع، وما تعنيه من توجيه للمستشهرين في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة.

رغم أهمية قطاع سبر الآراء، فإن اهتمام المشرع التونسي به لم يتجاوز مستوى تنظيم عمله خلاله الحملات الانتخابية. فالقانون الانتخابي في فصليه 70 و172 يمنع "بث ونشر نتائج سبر الآراء التي لها صلة مباشرة أو غير مباشرة بالانتخابات، والاستفتاء والدراسات والتعاليق الصحفية المتعلقة بها عبر مختلف وسائل الإعلام، خلال الحملة الانتخابية أو حملة الاستفتاء وخلال فترة الصمت الانتخابي، إلى حين صدور قانون ينظم سبر الآراء".

ولكن عملية استقراء بسيطة للتاريخ القريب (أي لانتخابات 2014) تُعلمنا أنّ وجود إطار تشريعي للفترة الانتخابية لم يمنع من وقوع تجاوزات كبيرة من جهة بعض مؤسسات سبر الآراء، ومن جهة الكثير من المؤسسات الإعلامية العمومية والخاصة؛ التي كانت أبعد ما تكون عن الحيادية والمهنية، بحيث أصبحت طرفا فاعلا في توجيه "الرأي العام" والتلاعب به أحيانا.

 

استقراء بسيط للتاريخ القريب (أي لانتخابات 2014) يعلمنا أنّ وجود إطار تشريعي للفترة الانتخابية لم يمنع من وقوع تجاوزات كبيرة من جهة بعض مؤسسات سبر الآراء

منذ 2016، تقدمت الكتلة الديمقراطية والكتلة الشعبية بمبادرة تشريعية مشتركة لقانون أساسي ينظم قطاع سبر الآراء، وكان أن ظاهرتْهُما في مسعاهما كتلة الحرة التابعة لحزب مشروع تونس، وهي الكتلة التي قدمت مبادرة لقانون عادي في الإطار نفسه الهادف إلى تنظيم هذا القطاعٍ الحيوي في مسار انتقالي هش ومتعثر. ولم تنحصر المبادرات التشريعية في أحزاب المعارضة البرلمانية، إذ قامت "الغرفة الوطنية لمكاتب استطلاع الرأي" في سنة 2017 بتقديم مشروع قانون لتنظيم عملية سبر الآراء وأحالته على المجلس الوطني للإحصاء والهيئة العليا المستقلة للانتخابات قبل رفعه إلى رئاسة الحكومة. ولكنّ مطلب إحداث "هيئة وطنية مستقلة لسبر الآراء" عرف تعثرا كبيرا في المسارين التنفيذي والتشريعي، فلا لجنة التشريع العام التابعة للمجلس النيابي نظرت في المبادرتين التشريعيتين المذكورتين أعلاه، ولا رئاسة الحكومة تقدمت بمبادرة تشريعية تستلهم مقترحات المختصين في الإحصاء وغيرهم. وهو ما أبقى الفراغ التشريعي على حاله إلى هذه اللحظة.

ليس يعنينا في هذا المقال طرح الإشكاليات المتعلقة بعملية سبر الآراء ذاتها، من جهة المفاهيم والمناهج المتبعة للوصول إلى "مؤشرات كمية" معينة، ولا يعنينا أيضا ارتباط مؤسسات سبر الآراء بأصحاب السلطة والمال، أي ارتباطها باستراتيجيات السيطرة التي تُوظف فكرة "الرأي العام" لتحقيق جملة من المصالح المادية والرمزية وشرعنتها. فهذه الإشكاليات المعرفية والسوسيولوجية ما زالت محلّ جدل في المجتمعات الراسخة في الممارستَين الديمقراطية والعلمية، وستظل محل جدل في تونس حتى بعد انتهاء هذه الفوضى المعمّمة التي لا يُمثل الانفلات الإحصائي إلا مظهرا من مظاهرها.

إن ما يعنينا أساسا في هذا المقال هو السؤال التالي: لماذا لم تعتبر السلطتان التنفيذية والتشريعية تنظيم قطاع سبر الآراء أولوية مطلقة، رغم اقتراب موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية، ورغم تعدد الأصوات المنادية بضرورة إيجاد إطار قانوني يحمي الأشخاص الماديين والاعتباريين من التلاعب أو من الضرر الذي قد تلحقه بهم نتائج سبر الآراء"المشبوهة"، أو حتى مدفوعة الأجر؟

 

غياب إطار تشريعي منظم لمؤسسات سبر الآراء هو مجرد مظهر من مظاهر التراخي المتعمد في إرساء قواعد الشفافية والرقابة والمحاسبة

لا شك في أن الإجابة عن هذا السؤال ستظل مجرد تخمين، ما لم نضع قضية سبر الآراء في إطار أعم؛ يتصل بدور منظومة الحكم في تعثر مسار الانتقال الديمقراطي ومؤسساته من جهة أولى، وطبيعة الأولويات الحقيقية لتلك المنظومة من جهة ثانية. إنّ غياب إطار تشريعي منظم لمؤسسات سبر الآراء هو مجرد مظهر من مظاهر التراخي المتعمد في إرساء قواعد الشفافية والرقابة والمحاسبة، وهو أيضا شكل من أشكال "التعامد الوظيفي (أي الاعتماد المتبادل) بين "الإحصائي المشبوه" (متمثلا في بعض أصحاب المؤسسات الإحصائية المعروفة)، وبين "الرأسمالي المشبوه" و"السياسي المشبوه" المسيطرَين على الحياة العامة بمختلف مناحيها.

فمن المعلوم في تونس أن التداخل المريب بين المال والسياسة قد جعل أنظار منظومة الحكم تنحرف عن انتظارات المواطنين وأولوياتهم، لتصبح مجرد واجهة لاستراتيجيات السيطرة والتحكم؛ التي ينتمي أغلبها إلى النواة الصلبة للمنظومة الحاكمة منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا، وينتمي بعضها إلى "مُحدثي النعمة" من الوافدين الجدد على السلطة بعد الثورة.

 

الفوضى التي تطبع عمل مؤسسات سبر الآراء ودورها المؤكد في خدمة مصالح سياسية ومالية معينة، تحيلنا بالضرورة إلى دور المؤسسات الإعلامية (ومن يقف خلفها من رجال أعمال وأجندات حزبية) في تعميق الأزمة

إذا ما وضعنا قضية سبر الآراء في سياقها العام، فإن وجه الغرابة لن يكون في غياب الإطار التشريعي، بل في وجوده. فمهما كانت أهمية هذا الإطار التشريعي، فإنه لن يكون في مستوى أهمية التعطيل المتعمد لإرساء المحكمة الدستورية، ولن يكون أيضا في مستوى الشيطنة النسقية لأعمال هيئة الحقيقة والكرامة والتهميش المنتظر لتوصياتها.

ختاما، فإن الفوضى التي تطبع عمل مؤسسات سبر الآراء ودورها المؤكد في خدمة مصالح سياسية ومالية معينة، تحيلنا بالضرورة إلى دور المؤسسات الإعلامية (ومن يقف خلفها من رجال أعمال وأجندات حزبية) في تعميق الأزمة. وهو ما أفضى بنا إلى وضع "سريالي" لخّصه السيد منيار منصور، مدير مؤسسة "سيغما كونساي"، عندما قال في تصريح صحفي لجريدة الصباح، في 15 أيار/ مايو 2013 إنّ "كل من يشكك في طريقة عملنا ونتائجنا، ما عليه إلا الحضور معنا ومتابعة عملنا عن قرب". ولم يكن هذا المسؤول عن واحدة من أكثر المؤسسات الإحصائيات إثارة للجدل؛ ليقول ما قال لولا يقينه بأنه في زمن الاعتباطية والخطابات السفسطائية، ولذلك لم يجد حرجا في أن يطلب من المواطنين أن يلعبوا دور الأجهزة الرقابية ودور "تقنيّي المعرفة" في الآن نفسه. ولكن أين تبدأ السريالية وأين تنتهي، والحال أنّ أغلب الخطابات المهيمنة على المشهد الإعلامي بعد الثورة، سواء أصدرت تلك الخطابات من سياسيين أو مثقفين أو صحفيين، لا علاقة لها في الحقيقة بالمستوى المعرفي، ولا بمن هم أسفل، في المستوى الاجتماعي؟