قضايا وآراء

هل سهامُ الباطلِ تدلّ على الحقّ؟!

1300x600

لم يَقُلها الشّافعيّ

"اتبع سهام عدّوّك ترشدك إلى الحقّ".. هذه العبارة المشهورة المنسوبة إلى الإمام الشّافعي؛ والتي تزخر بها وسائل التّواصل الاجتماعي، ويستحضرُها عموم الإسلاميين وأصحاب المشاريع لإثبات أنّهم على الحقّ؛ هي مقولةٌ باطلة من حيثُ نسبتُها إلى الإمام الشّافعي، فلم ترد في أيّ كتاب من كتبه، ولم ترد في غير ذلك من الكتب التي تنقل عن غيره من الأعلام الكبار.

وما هذه العبارة إلا كغيرها من العبارات الشّائعة المنسوبة إلى الأعلام الكبار، والتي تنتشر في وسائل التّواصل الاجتماعي انتشار النّار في الهشيم، ولا يكون لها أصلٌ من الصّحة من حيثُ نسبتُها إلى قائليها، وإنّما تتمّ نسبتها من قبل واضعيها إلى الإمام الشّافعيّ رحمه الله تعالى؛ لتكتسب موثوقيّتها العاليّة وقبولَها دون أدنى تمحيصٍ من قبل المتلقّي.

وماذا عن المضمون؟

وهي باطلةٌ أيضا من حيثُ مضمونُها؛ فالصّراع لا يكون بين الحقّ والباطل على الدّوام، فقد يحتدمُ الصّراع بين الباطل والباطل أيضا.

وإنّ ثنائيّة الصّراع التي رسّخها الخطاب التّعبوي في العمل الإسلامي في كثيرٍ من الأحيان؛ وهي صورة انقسام العالم إلى فسطاطين هما الحقّ والباطل، وأنَّ المعركة تحتدم على الدّوام بينهما، ممّا جعل الصّورة المستقرّة في الأذهان متّجهة إلى ثنائيّة الحقّ والباطل، دون النّظر إلى تعقيدات التشابك في الصّراع بين الباطل والباطل، بل بين قوى الحقّ في أحيان عديدة.

 

 

الصّورة المستقرّة في الأذهان متّجهة إلى ثنائيّة الحقّ والباطل، دون النّظر إلى تعقيدات التشابك في الصّراع بين الباطل والباطل، بل بين قوى الحقّ

وارتكز هذا الخطاب على أنّ الباطل إذا كان في جهةٍ فالحقّ هو في الجهة المقابلة بالضرورة؛ فكيف إذا اجتمعت مجموعةٌ من قوى الباطل ضدّ جهةٍ وكيان ما؟!

إشكال استدلاليّ

إذا اجتمعت قوى الباطل وحشدت حشودها ضدّ جهةٍ ما أو كيانٍ ما أو جماعةٍ ما أو دولةٍ ما أو أحدٍ ما؛ فسرعان ما يتمّ استحضار هذا القول المنسوب للشّافعي على أنَّ اجتماعها ضدّه ليس إلّا دليلا على أنّه هو الحقّ أو أنّه على الحقّ.

والغريب، أنَّ هذا الدليل يحضر في أدبيّات عموم القوى الإسلاميّة على ما بينها من تناقض، من داعش وصولا إلى الطرق الصّوفية، مرورا بما بينهما من الجماعات والقوى والتيارات. كما يستحضره أصحاب القضايا والمدافعين عن حقوقهم في خطابهم التعبوي.

 

 

 

هذا الدليل يحضر في أدبيّات عموم القوى الإسلاميّة على ما بينها من تناقض، من داعش وصولا إلى الطرق الصّوفية، مرورا بما بينهما من الجماعات والقوى والتيارات

وطالما استدلّت قوى مثل داعش أو القاعدة بأنّها على الحقّ باجتماع العالم وتحالفه ضدّها، ولاقى هذا الاستدلال وقعه في نفوس الكثيرين ممّن تلقّوا هذا الخطاب التعبوي في حياتهم.

وكذلك تبرز في هذا الإطار مقولةٌ يكررها الكثيرون مفادها "حيثما كانت أمريكا وإسرائيل فإنّ الحقّ في الجهة المقابلة حتما"، ممّا استدعى من الكثيرين تبنّي مواقف مساندة لكثيرٍ من القوى والدّول والجهات والأشخاص واعتبارها على الحقّ، فقط لأنّ أمريكا تقف منهم موقفا عدائيّا.

ويكمن الإشكال في الاستدلال بهذه المقولة في جعلها قانونا مطّردا يتمّ تعميمه على كلّ الحالات والوقائع والمواجهات.

وهذا غير صحيح، ويدحضه الواقع المعاش كما تنقضه حركة التّاريخ، بل تدلّ النّصوص الشّرعيّة التي ينبغي أن تكون هي موضع الاستدلال على خلافه.

فقد بينت نصوص القرآن الكريم على أنَّ الباطل قد يتقاتلُ ويتصارعُ فيما بينَه، بل إنّ صراع الباطل البينيّ يكون شديدا للغاية، وقد قال الله تعالى في وصف أهل الباطل حينَ يتصارعون فيما بينهم: "بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ".

 

 

 

حركة التّاريخ تنقض هذا الاستدلال وتؤكّد صراع الباطل مع الباطل، وأنَّ الباطل يقتل بعضه بعضا

وكذلك، فإنَّ الاستدلال باطلٌ أيضا من جهة الواقع؛ فإنَّ قوى الباطل ما فتئت تتصارع فيما بينها، لا سيما في عالم اليوم الذي تتصارع فيه القوى الكبرى بحثا عن مصالحها. فمنذ مئة سنة وقوى الأرض تتصارعُ فيما بينها في حروبٍ عسكريّة عالميّة أو حروبٍ باردة؛ يستعلي فيها الباطل بعضه على بعض.

وكذلكَ، فإنَّ حركة التّاريخ تنقض هذا الاستدلال وتؤكّد صراع الباطل مع الباطل، وأنَّ الباطل يقتل بعضه بعضا، ابتداء من حروب الإمبراطوريّات العظمى الفرس والرّوم فيما بينها، وهو صراعٌ جليّ بين الباطل والباطل.

وهذا يستدعي مراجعة خطابنا التعبويّ ومنهجيتنا في التقييم والاستدلال على الحقّ؛ فالحقّ يستدلّ عليه بالحق ولا يُستَدلّ على الحقّ بالباطل.