قضايا وآراء

الحراكُ العربي يُزهِرُ من جديد

1300x600
أزهر الحراك من جديد في بلدين عربيين لم تشملهما موجةُ ما سمي بـ"الربيع العربي"، هما: السودان والجزائر. ففي الأول ظل السودانيون مشغولين بأزمة "دارفور"، وما تلاها من دعوات الانفصال أولا، والاستقلال لاحقا، وفي الثاني ظلت الروايةُ السائدة أن الجزائر عرفت الحراك قبل غيرها، منذ أن تمدّدت الأزمة في ربوعها خريف 1988، قبل أن تنالَ منها سنوات العشرية السوداء ) 1990-1999(، وتولّد لدى أبنائها "فوبيا" الخوف من مآسي الحرب الأهلية ونزعات التطرف والعنف. ولئن تمكن البلدان من تفادي رياح الحراك، تارة بالتشديد على أولوية الوحدة الوطنية وصيانة البلاد مما يُحاك ضدها من الخارج، كما هو حال السودان، أو طورا بالتلويح بالإصلاحات، والقيام ببعضها دون وضع الأصبع على جوهرها، فإن قاع البلدين استمر يَغلي في صمت، ويُشير إلى أن القادم أصعب من الموجود، وأن استمرار الحال من المُحال.

لا يختلف حراكُ السودان والجزائر عن نظيرِه الذي انطلق من تونس في كانون الأول/ ديسمبر 2010، وامتدَّ، وإن بدرجات متباينة، إلى قرابة 17 بلدا عربيا من المحيط إلى الخليج. فعلى امتداد لحظتي الحراك العربي، ظلت الإشكاليةُ واحدة مُجسّدة في مطلب تغيير العقل السياسي الذي يُدير البلاد، ويتحكم في مصير أبنائها، وإعادة بناء شرعية الدولة والسلطة على تعاقد جديد؛ تلعبُ المجتمعات في بلورةِ عناصره وصياغةِ مضمونه الدزرَ الأول والأخير. لذلك، توحَّدت شعاراتُ السودانيين والجزائريين في المطالبة برحيل رأس النظام، وفتح المجال أمام المواطنين لاختيار من يعتبرونه أقدر على الانتقال بهم نحو الأفضل.

طفح الكيل بالسودانيين (وهم أهل الصبر والجلَد ومغالبة النوائب) بعد ثلاثة عقود من الحكم (1989-2019)، جنوا منها غلاءَ المعيشة، وتدهور العملة، واستفحال الفقر والهشاشة، وتفشي ظاهرة الهجرة بحثا عن الرزق بين أبنائهم، والأخطر، لم يعد بلدُهم، وهو الموسوم سُلة غِذاء العرب، بيتاً للعيش المشترك، حيث هرَّبت أقليةٌ منهم خيرات البلاد وحولتها أرصدة في الخارج، وظلت أغلبيتهم تواجه ضنك العيش..

ولعل الأمر نفسه، أو ما يُشبهه، حصل ويحصل في الجزائر، حيث بلغ الفقر عتبة الثلاثين في المئة، في دولة وهبها الله كافة الخيرات، وأمدها بكل مؤهلات العُمران والعيش الكريم. ومرة أخرى خرج الجزائريون، كنظرائهم في السودان، يعترضون على ترشح رئيسهم العليل، شفاه الله، لعهدة خامسة، وهو الذي حكم البلاد منذ العام 1999، وعدل الدستور عُنوة ليتأتى له البقاء على رأس البلاد. ففي البلدين معاً هناك عطب في آلة السلطة وآليات ممارستها، وهي العلة ذاتها التي أطلقت الحراك العربي وأججت حركاته، منذ سنة 2011.

ربما بسبب تأخر حراك البلدين عن موجة الحراك العربي، التزم المجتمعان السوداني والجزائري بلغة السلم والسلمية، والدعوة إلى الانضباط وضبط النفس والأعصاب، ومناشدة المتظاهرين بأن يتجنبوا الاحتكاك بأجهزة الدولة، ومؤسساتها الأمنية والعسكرية، وأن يعبروا عن حضارية حراكهم ونضج مطالبهم؛ لأن الحاصل في أكثر من بلد عربي تأجج الحراك في ربوعه أن السلمية لم تصل مداها البعيد، إذ سرعان ما انقلبت الأمور، أو أريد لها أن تنقلب، فعَمّ العنفُ والعنفُ المتبادل، وساد الاقتتالُ بين الأطراف، وضاعت الأهدافُ الكبرى للحراك، بفعل أبنائِه وبتدخل أطراف من خارج مجتمعاته.

والواقع أن السودانيين قدموا نموذجاً راقيا للحراك السلمي، ساهم فيه خيرة شبابه، ذكورا وإناثا، وآزرته كفاءات عالية المستوى من أجود ما أنتجه المجتمع السوداني، وحظي بتأييد كبير وواسع على امتداد ولايات ومحافظات السودان، غير أنه لم يجد استجابة ذكية واستباقية من قبل السلطة ومؤسساتها، فتعرض الحراك برمته للتعنيف، والتنكيل، والقوة المفضية إلى القتل والِإضرار الفردي والجماعي، ناهيك عن الاعتقال، والتنكيل بالحريات. وحتى حين قام رأس السلطة بخطوة إلى الوراء، عبر الإجراءات المعلن عنها بشكل متأخر بخصوص إعلان حالة الطوارئ لسنة، وحَلّ الحكومة، وحَلِّ حكومات الولايات، لم يجد خطاب الرئيس "البشير" أي صدى لدى المواطنين، الذين أكدوا عزمهم على تغيير النظام، وإعادة بناء شرعية السلطة وفق تعاقد جديد.

أما في الجزائر، فقد أبلغ الحراك الرسائل السياسية القوية التي وجب إبلاغها إلى من يهمُّه الأمر، أي رأس السلطة والأحزمة الملتفة حوله، والمتحكمة فيه. لعل أول هذه الرسائل أن المجتمع، بكافة مكوناته، قادر على التعبير بشكل حضاري وسلمي عن إرادته المستقلة في تقرير مصيره، وأن القصد من تظاهره ليس خلق القتنة، أو الإضرار بمؤسسات الدولة وأمنها، وإنما التطلع إلى التغيير الإيجابي في قواعد اللعبة، وإعادة صياغة تعاقد سياسي واجتماعي جديد، من شأنه تمكين الجزائريين من سبل المشاركة الفعالية والحقيقية في تدبير شؤونهم، والاقتسام العادل لثرواتهم، ووضع بلدهم على سكة الدول الناجحة.

ما هي الآفاق الممكنة والمنتظرة من حراك السودان والجزائر؟ وهل سيكون مصير البلدين شبيها بمصير الحراك في البلدان العربية التي سبقتها؟

لا يمكن توقع المستقبل بشكل قطعي وجازم؛ لأن قراءة المستقبل في السياسة لا تحتمل ذلك، ما يمكن فعله الإعلان عن مشاهد ممكنة للتطور، لعل أبرزها، أن تزداد مواجهة الحراك وهو المشهد الأسوأ لأن مخاطره كثيرة، أو يقع التجاوب بشكل عميق مع المطالب بفتح الطريق أما التغيير الإيجابي، وهذا هو المنشود، وإن كانت حظوظه الكاملة غير متوفرة، أو يحصل المشهد الأوسط، أي إدخال إصلاحات تحمل نَفس لا غالب ولا مغلوب، وهذا ممكن، إلا أن مفعوله يظل ناقصا ولا يحل المشكلة من أصولها.