قضايا وآراء

أزمة اليسار المغربي بين الأمس واليوم

1300x600
عندما نستدعي تاريخ اليسار المغربي، لا بد من استحضار صراعه الطويل مع الملكية من أجل الوصول إلى السلطة. وحتى أكثر المتشائمين، لم يكن يتوقع أن ينقلب اليسار من المعارضة الجذرية لنظام الحكم، إلى حليفه السياسي المشارك له في إدارة الدولة، في لحظة تاريخية فارقة، عندما انتقل من النضال ضد الملكية إلى خادم لها ومدافع عنها، وظل صراعه السياسي مقتصرا على خصمه الأيديولوجي، الذي هو الحركة الإسلامية. وكان هذا التحول في مساره السياسي، نتيجة فشله في تغيير النظام عن طريق ما يسميه بـ"النهج الثوري"، فأصبحت معركته مع "الإسلام السياسي"، أي الجماعات الإسلامية، فهل نحن أمام مراجعات جذرية لعقيدة اليسار؟ أم هو تحوّل ظرفي أملته "الواقعية السياسية"؟

إن المتتبع لمسار التحولات الكبرى التي وقعت في مسيرة اليسار، يلاحظ كيف بدأ مشواره السياسي بالعمل من أجل تغيير نظام الحكم من الملكية إلى الجمهورية، ودفع مناضلوه ثمنا باهظا مقابل هذا التوجه الراديكالي، ثم في منعطف تاريخي، قرر الدخول في تسويات وتوافقات مع الملكية، في أواخر عهد الملك الراحل الحسن الثاني، الذي عقد صفقة مع قيادة الاتحاد الاشتراكي، لخوض تجربة التناوب، بزعامة الكاتب الأول السابق عبد الرحمن اليوسفي، تمهيدا لانتقال الحكم إلى العهد الجديد. وبعد حصول هذا الانتقال، زادت قدم اليسار رسوخا في مؤسسات الدولة، حتى وإن تراجع نفوذه الانتخابي، ظل النظام متشبثا به إلى غاية اليوم، واستكمال إدماج عدد من مناضلي اليسار السابقين، في بعض المؤسسات الدستورية، كالمجلس الوطني لحقوق الإنسان والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والهيئة العليا للاتصال السمعي البصري.

في المقابل، هناك جزء من اليسار بقي خارج دوائر السلطة، لكنه يقوم بأدوار أكثر أهمية وفاعلية من اليسار المشتغل من داخل المؤسسات، وهذه الفئة تشتغل في مجالات مختلفة، وبشكل أساسي في مجالات الإعلام والصحافة والفن والمجتمع المدني والحقوقي والنقابي، حيث اختار قطاع من اليسار العمل في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، وخاصة حقوق المرأة والطفولة والأسرة، وفضل آخرون النضال من داخل المجال الصحفي والإعلامي، والبعض الآخر توجه إلى المجال الفني. وقد جاء اختيار النخب اليسارية لهذه المجالات الحيوية، لما لها من تأثير كبير على ثقافة وقيم المجتمع، بحيث استطاعت من خلالها إحداث تغيير واضح في القيم والثقافة الإسلاميين، وتمكنت إلى حدّ بعيد من علمنة المجتمع المغربي، وتعطيل دور الدين في مجالات الحياة اليومية، إلى درجة أنه أصبح محظورا حتى على خطيب المسجد الحديث في الشأن العام، وإلا تعرّض للتوقيف والفصل، كما وقع لأعداد كثيرة من الخطباء في عدد من المدن، آخرها توقيف خطيب أحد مساجد الرباط؛ لأنه تكلّم عن حكم الإسلام في الاحتفال برأس السنة الميلادية.

وكما هو معلوم، فإن اليسار ليس كتلة واحدة متجانسة، وإنما هو مشارب وتوجهات مختلفة فيما بينها، فيه اليسار الجذري (المتطرف) واليسار الإصلاحي (الديمقراطي)، وإن كانت تجمعهما مرجعية واحدة، وخصم سياسي وحيد. حتى وإن كان جزء من هذا اليسار لا يزال معارضا لنظام الحكم، ولا يعادي "الإسلاميين"، وأبدى استعداده للتنسيق السياسي معهم في بعض المناسبات، لكن هناك يسارا عدميا وغير ديمقراطي، لا يعنيه في شيء دمقرطة الحياة السياسية، وإنما هاجسه الوحيد هو التصدي لكل من يحمل مرجعية إسلامية، وذلك باستخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، بما في ذلك التشهير والكذب والنفاق السياسي، حتى ولو اقتضى الأمر التحالف مع "الشيطان". وقد عاش المغاربة خلال الشهور الماضية، حوادث مفتعلة تولى إثارتها وتضخيمها بقايا اليسار العدمي، من خلال شن حملات إعلامية قذرة ضد بعض الفاعلين السياسيين، وصلت إلى حدّ انتهاك حياتهم الخاصة، وتشويه سمعتهم من خلال ترويج بعض الصور الخاصة، واتهامهم بالنفاق، كما صرحت بذلك قيادية يسارية. ولست أدري هل أصاب هؤلاء الزهايمر، حتى نسوا مطالبهم بالاعتراف الرسمي بالحريات الفردية؟ أم أن هذه الحريات لم توجد إلا لفئة معينة من الناس؟

إن اليسار العدمي الذي اختار القيام بوظائف قذرة لصالح جهات مشبوهة، حتى وإن رفع شعار الدفاع عن ما يسمى بـ"القيم الكونية" مثل الحريات الفردية والجماعية وحقوق الإنسان والديمقراطية والتعددية، فإنه في الواقع انكشف عنه القناع، وظهر تناقض خطابه السياسي، لأنه وضع نفسه في مواجهة مع التاريخ، فمن يؤمن بالديمقراطية والحريات، لا يمكن أن يكون في خدمة أجندات سلطوية، تسعى إلى الهيمنة على الحياة العامة، وتحويل كل القوى والأحزاب السياسية إلى أدوات خادمة لها.

إن أزمة اليسار عموما، لا تقتصر على فشله في تغيير نظام الحكم بالمغرب، من الملكية إلى الجمهورية سابقا، ومن ملكية تنفيذية إلى ملكية برلمانية حاليا، وإنما في فشله في تغيير المجتمع، من مجتمع متدين ومحافظ، إلى مجتمع حداثي علماني، وقد خلق هذا الفشل تراجع اليسار عن الدعوة الصريحة إلى تغيير المجتمع والدولة، بناء على نظام اشتراكي ثم شيوعي، إلى تبني خطاب ملتبس، يدعو إلى الديمقراطية والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، لكنه في الواقع يتخلى عن هذه القيم الإنسانية، خاصة عندما يكون في مواجهة مع خصومه السياسيين، كما أن موقفه من الدين يكتنفه الغموض والتناقض، فهو يدعو إلى العلمانية، أي الفصل بين الدين والحياة العامة، وفي نفس الوقت يوظف اللغة والخطاب الدينيين.