قضايا وآراء

في يوم اللُّغة العربيّة.. تصالَحُوا مع المعجم

1300x600
لا يكادُ يوجدُ أحدٌ مرّ على المدارس العربيّة طالبا ومتعلّما؛ إلا ونالَ جرعة أو أكثر من الحديث عن أهميّة المعاجم في اللّغة العربيّة، غيرَ أنَّ هذه الجرعات الخجولة لا تتجاوز الحديث عن أهميّة المعاجم في معرفة معاني الكلمات، وضرورة الرّجوع إليها عند البحث عن معنى كلمةٍ غريبةٍ أو مُشكلة.. عندها تغدو مهمّة المعاجم في نظر عامة النّاس الكشفُ عن معنى كلمة اصطدمنا بها في طريقنا، أو لفظِ ارتطم بنا ونحن نقرأ أو نكتب أو نسمع.

وهكذا أصبحت المعاجم مركونة على رفوف المكتبات، ومنسيّة في غياهب الهواتف الجوّالة، بعدَ أن اقتصرت ماهيتُها على تطبيقاتٍ تُزارُ وتُغادَرُ على عجَلٍ عقب قراءةِ معنى الكلمة المُرادة.

وليتَ شعري لو أنّ الفراهيدي علمَ أنَّ هذا ما سيحلّ "بالعين"، ولو أنَّ ابن منظور تخيّل أنَّ هذا هو مآل "لسان العرب"، وابن فارس استشرف مصير "مقاييس اللغة"، ولو أنَّ الجوهري خطر بباله أنَّ "الصّحاح" سيغدو يتيما هكذا، وكذلك لو تخيّل الفيروزبادي انحسار "القاموس المحيط" بهذا الشّكل المهين؛ لقطّعوا أصابعهم قبل أن تُقدَم على كتابة هذه المصنّفات النّفيسة. ولعلّ عظامهم تصطكّ في قبورها مع كلّ حصّةٍ دراسيّةٍ يشوّه فيها المعلّمون مهمّة المعاجم ووظيفتها.

لم تشهد مصنّفاتٌ في علوم اللغة العربيّة ظلما كما شهدته معاجم اللغة؛ في تشويه مهمّتها وتقزيم وظيفتها وتهميش وجودها في حياة الإنسان.

ولسنا هنا في صدد الحديث عن إعادة الاعتبار للمعاجم في المناهج الدراسيّة، فهذا طموحٌ كبيرٌ ومطلبٌ عظيم، وإن كان صعب المنال، لكن من المهمّ للغاية إعادة الاعتبار لها على المستوى الفردي وعلى مستوى الثقافة العامّة.

إنَّ أهمّ ما صُنّفت المعاجم لأجله هو تنمية الثّروة اللّغوية عند المتلّقي، وبالتّالي تنمية الذّائقة وتفعيل القدرة التعبيريّة، ومن ثَمّ تحقيق الصّلة الوثيقة بين المرء ولغته بوصفها أحد أهم ركائز هويّته وأعمدة شخصيّته الحضاريّة.

فالمعاجم إنّما صُنّفت لتُقرَأ على مَهلٍ، مثل قهوة محمود درويش، ولِتُقرأ كما غيرها من الكتب النّفيسة، ابتداء بالمقدّمة وانتهاء بالخاتمة، لا استلالا ولا اجتزاء ولا انتقاء عند حاجةٍ عابرةٍ وحسب.

وفضلا عن الثّروة اللّغويّة التي تحقّقها هذه الطريقة في قراءة المعاجم، فإنّها تفتح للمرء نوافذ تطبيقيّة حيّة على علوم اللّغة من نحو وصرف وبلاغةٍ وأدب، بطريقةٍ لا جفاف فيها ولا إيحاش ولا إملال.

ومع المواظبة على هذه الطّريقة في قراءة المعاجم، وإنْ قلَّ القدر المقروء، تتشكّلُ الصّداقة بين المرء ولغته.. هذه الصّداقة التي نفتقدها في علاقتنا مع العربيّة اليوم، والتي تجعل المرء يتذوّقُ اللّغةَ تذوّقا يستشعر حلاوتها وطلاوتَها، بعيدا عن علوم الآلة فيها التي ما تزال تبتعدُ بالمتلّقي شيئا فشيئا عن روح اللّغة وكُنههَا العظيم.

قرِّرْ أن تجعل لك وِردا في كلّ يومٍ ثلاثَ صحائف من معجمٍ تختارُه، واثبت عليها مهما شعرت في بداية أمرك بضيق الصّدرِ وتسرّب الملل، وبعدَ شهرٍ واحدٍ فقط ليس أكثر من المواظبة ستستشعر الفرق؛ الفرقَ في إقبالَك، والفرقَ في زادكَ من اللّغة.

ما أحوَجَنا إلى التّصالح مع المعجم بعد هذه الجفوة الطويلة، دخول اللسان العربيّ في صحارى التّيه والتلوّن، وويحَ نفسي إذا كان ابن منظور المتوفّى سنة 711هـ/1311م قد علّل تصنيفه لسان العرب بتسارع العجمة إلى اللّسان العربيّ وافتخار العربِ بغيرِ لغتهم؛ إذ يقول: "وذلك لِما رأيتُه قد غلب في هذا الأوانِ من اختلافِ الألسنةِ والألوان، حتّى لقد أصبحَ اللّحن في الكلام يعدّ لحنا مردودا، وصار النّطقُ بالعربية من المعايب معدودا، وتنافس الناسُ في تصانيف التّرجمانات في اللّغة الأعجمية، وتفاصحوا في غير اللّغة العربيّة، فجمعتُ هذا الكتاب في زمنٍ أهلُهُ بغير لغتِه يفخرون، وصنعته كما صنع نوحٌ الفلكَ وقومُه منه يسخرون".. فماذا عسانا نقول اليوم؟!