قضايا وآراء

هل "تجزأرت" مصر أم مُصّرت الجزائر؟

1300x600
في 25 أيلول/ سبتمبر1988، بدأت ملامح ثورة شعبية وعمالية تلوح في الأفق قي الجزائر، بعد أن عقدت نقابة مؤسسة صناعة السيارات لقاء ندد العمال فيه لأول مرة، بالفساد وببعض رموز الدولة، مرددين شعارات مناهضة لهم. أما في الأحياء الشعبية، فقد فتح خطاب الرئيس الشاذلي بن جديد، الذي أكد فيه أن الجزائر على شفا الإفلاس، وهو ما لم يقنع الشارع الجزائري الذي يعلم ما يضخه النفط من مليارات في خزانة الدولة، فتح الخطاب المجال للحديث عن قرب ثورة شعبية في الجزائر ضد رموز الدولة.

في 4 من تشرين الأول/ أكتوبر، بدا أن الأمر أصبح حقيقة، حيث ظهر الحراك في الأحياء الشعبية لتنفلت الأمور في اليوم التالي، حيث خرجت تجمعات الشباب الغاضبين واستهدفت كل ما يرمز لمؤسسات الدولة، وهاجم المتظاهرون المؤسسات الحكومية والأمنية، وامتد الغضب إلى الأحياء الراقية بالجزائر العاصمة، لتستمر الهبة الشعبية حتى تعطلت مرافق الدولة بالكامل، ما دفع بالسلطات إلى التدخل عسكريا من خلال انتشار للدبابات في العاصمة وفي المدن الكبرى، واستخدمت العنف ضد المتظاهرين ما أسفر عن مقتل 120 متظاهرا بحسب الإحصاءات الرسمية.

إلا أن الهبة الشعبية توجت بدستور سطر في 1989؛ تضمن إصلاحات سياسية واقتصادية سمحت بإنشاء أحزاب جديدة وأنهت حكم الحزب الواحد. وعلى الرغم من ذلك، فقد تم الالتفاف على هذه، وفي المقابل لم تستطع المعارضة تغيير طبيعة ومكونات النظام الحاكم.

ومع شعور الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي أنشئت بموجب دستور 1989 بهذا الالتفاف، بدأت بديناميكية غير مسبوقة في توعية الشعب بمكايد النظام، فالتف الشعب حولها، مما أهلها للفوز بانتخابات عام 1990 بسهولة، وهو ما دفع الشاذلي بن جديد لفرض الأحكام العرفية وإلغاء نتائج الانتخابات، لتدخل الجزائر في ما سمي بالعشرية السوداء المعروفة أحداثها.

إلا أن مصطلح الجزأرة الذي يطلقه السياسيون والإعلاميون على تلك الفترة الدموية، ليس هو المعني في هذا السياق، ولكن المقصود بالجزأرة هي الفترة التي تلت هذه العشرية الدموية. يقول البعض إن الجزائريين، رغم الضحايا، لنيل حريتهم وفك قيودهم، لم يجنوا شيئا، وما زالوا يتجرّعون مرارة أزمة أمنية وسياسية. في المقابل، نجح النظام في تحصين نفسه من رياح الربيع العربي التي هبت، بعد أن حقن المجتمع بعقار الاستقرار الناجع والقاتل للثورات. فإذا كان الوضع الآن يدعو إلى الحراك، إلا أن إقدام الشارع الجزائري على محاولة التغيير صعبة؛ لأن تبعات الربيع العربي عالقة في أذهان الجزائريين. وعقار التخويف من التغيير الذي حقن النظام به الشعب ما زال ساريا، ولا زال أهالي من قضوا في 1988 يعانون فراق أبنائهم.

سيناريو الجزائر وتعاطي النظام، ومن خلفه المخابرات الفرنسية، مع فاعليات الثورة الجزائرية والتفافها على الثوار، كان المرشد لتعامل النظام المصري مع الثورة المصرية؛ الاستخبارات الصهيونية والأمريكية. ولم يكن حديث رأس النظام في مصر عن ثمن التغيير وكلفته، إلا جرعة من عقار الاستقرار القاتل، يجدد إعطاءه من وقت لآخر هو وإعلامه لقتل روح التغيير في الشعب المصري الراغب في ذلك، الذي تدفعه الظروف التي تعيشها بلاده إلى التحرك نحو التغيير. لكن الثورات تحتاج دوافع نفسية قبل المحركات السياسية أو الفساد، ولا تأتي تلك المحركات إلا من خلال وعي بأبعاد القضية، ولا أعني هنا الوعي بالحال وما يمكن أن يصير إليه المآل جراء السياسات الفاسدة التي يتبعها النظام، ولكن أعني هنا الوعي بقيمة ما يمكن أن يحصل وما يجب أن يدفع من ثمن. فلقد خدع النظام المصري ثورة يناير بسلميتها رغم إيغاله في قتل الثوار، ولا يزال. وهنا أنا لا أدعو لعسكرة الثورة، بل أدعو إلى تنظيم الصفوف والعمل الجاد لتهيئة الشعب للثورة من ناحية، وإيجاد بدائل ثورية ناجعة مع نظام تمكن من خلال قبضته الأمنية خلال 66 سنة، وبمعاونة المخابرات الصهيونية والأمريكية من السيطرة على مفاصل الدولة، لكن التاريخ يذكر زوال أنظمة كانت أشد منه بطشا وقوة، فقط.. عندما أراد الشعب.