كتاب عربي 21

الشيخ الطيب والسيسي.. حدود الخلاف وأبعاده!

1300x600
عندما تم تعيين الدكتور "أحمد الطيب" شيخاً للأزهر، توقعت أن يكون امتداداً للدكتور "محمد سيد طنطاوي"، فإذا بالأيام تكشف أنه امتداد للشيخ "جاد الحق على جاد الحق"، من حيث إدراكه لقيمة الموقع، وتصرفه بعد ذلك على هذا الأساس؟ و"طنطاوي" هبط بمنصب شيخ الأزهر لمستواه هو؛ بدلاً من أن يرتقي إلى هذا "الموقع الرفيع"!

أنا والطيب

مواقفي من الشيخ الطيب كلها سلبية، فقد كتبت ضده عندما كان رئيساً لجامعة الأزهر، وعندما ترك يد الأمن تتغول داخل الجامعة، فتلقي القبض على مجموعة من طلبة الجامعة، بعد التمهيد عبر جريدة "المصري اليوم" بأنهم ألا وقد قاموا ببعض العروض الخاصة بلعبة الكاراتيه، فإنهم كإخوان يخططون لقلب نظام الحكم. وهو المنشور الذي مثّل غطاء لقيام الأمن باعتقالهم، في حين أن حقيقة الاعتقال هي لمنعهم من المنافسة في انتخابات الاتحادات الطلابية!

وهاجمت اختياره شيخاً للأزهر عندما أصر على عدم استقالته من لجنة السياسات إلا بعد عودة الرئيس مبارك، وكان وقتها في الخارج، وبشرط أن يطلب منه مبارك ذلك، فإن لم يطلب فلن يستقيل من هذه اللجنة الحزبية التي كانت تضم في عضويتها كل رؤساء الجامعات المصرية، والتي هي تابعة للحزب الحاكم، ويترأسها "جمال مبارك". واعتبرت أن عدم مبادرته بالاستقالة، إنما يؤكد أن الرجل سيستمر بالهبوط بالموقع كما استلمه من الراحل الشيخ طنطاوي!

وهاجمت هذا الاحتشاد في لجنة اعداد الدستور من أجل تحصينه، في عهد الرئيس محمد مرسي. فعندما اضطر الإخوان إلى مسايرة بعض القوى السياسية داخل اللجنة في مسألة العزل السياسي لقيادات العهد البائد، على غير رغبة منهم، وكان من الطبيعي أن يشمل العزل أعضاء لجنة السياسات، وهي اللجنة التي أفسدت الحياة السياسية قبل الثورة، فإنه روعي عند وضع النص الدستوري وجود استثناء لصالح شيخ الأزهر، وبشكل يمثل عواراً دستورياً، وبدت الركاكة واضحة عند صياغته.

ولا شك أن الرجل حصل في عهد الثورة على ما لم يحصل عليه في عهد مبارك، فعندما تحققت الرغبة القديمة، بتحقيق الاستقلال الكامل لمنصب شيخ الازهر باختياره من قبل هيئة كبار العلماء، كان هذا لصالحه، وهي الهيئة التي حلها جمال عبد الناصر، ليصبح اختيار الشيخ من سلطة الرئيس واختصاصه. فقد عادت الهيئة واختار "الطيب" أعضاءها على نحو جعله يتمكن بعد ذلك من اختيار المفتي، حيث سقط من كان يتمنى الحكم الإخواني بفوزه بالمنصب، واستمرت سلطة شيخ الأزهر الافتراضية في اختيار وزير الأوقاف، كما كانت في عهد ما قبل الثورة. وقد أحبط "الطيب" اختيار أحد السلفيين للمنصب، وكان من اختيار الرجل القوي بجماعة الإخوان المسلمين المهندس خيرت الشاطر، وجاء باختياره هو "المفتي" الحالي.

وهاجمت أخيراً الشيخ عندما شارك في الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب، تماماً كما هاجمت البابا، واعتبرت أن حضورهم في مشهد الانقلاب أضفى عليه روحاً كهنوتية، لم تقابل باعتراض من قوى سياسية تمارس النفاق، وترى أن من أسباب انقلابها على الرئيس المنتخب هو الخوف من الخلط المحتمل بين الدين والسياسة، فإن لم يكن اليوم فنظرة إلى ميسرة!

موقف الشيخ من الانقلاب

لا أنكر أنني لم أنتبه إلى بيانه التاريخي الذي صدر عقب مجزرة الحرس الجمهوري إلا بعد ذلك بسنوات، كما لا أنكر أنني لم استمع إلى خطابه في يوم الانقلاب، فلا أظن أن أحداً قد استمع لأي من الحاضرين بعد بيان وزير الدفاع، وقد استمعت له بعد سنوات أيضاً، فإذا بالرجل يُعمل قاعدة أخف الضررين، فقد اعتبر الانقلاب ضرراً أيضاً. فما الذي يدفعه لهذا، وليس له في الأمر من شيء؟ وقد غضب بعد فض رابعة، وغادر مكتبه معتكفاً في مسقط رأسه في جنوب الصعيد، احتجاجا على إراقة الدماء.

وهى مواقف تُذكر له فتُشكر، من باب الإنصاف، وهي كاشفة عن طبيعة الرجل، ومن التعسف مطالبته بأكثر من هذا!

فالشيخ ليس من شباب الثورة، وليس بحكم النشأة والتكوين ثورياً، فهو ينتمي لبيئة محافظة، ومساره التعليمي محافظاً، وهو محافظ أيضا من حيث انحيازاته الدينية، وهو أمر لم يؤثر فيه كونه حصل على درجة الدكتوراة من واحدة من أهم جامعات فرنسا "السوربون"، فلم يعد منها مبهوراً، كما رفاعة الطهطاوي، أو طه حسين!

وهو بحكم كونه ينتمي للطرق الصوفية بالوراثة، لا يمكنه أن ينحاز للإخوان، وإذا كان الإمام حسن البنا قال عن جماعته من قبل إنها "طريقة صوفية" و"حركة سلفية"، فإن التيار الذي التحق بها في مرحلة البعث الثاني في السبعينيات، غيّب الجانب الصوفي في الجماعة؛ متأثراً بالفكر السلفي بدرجة أو بأخرى، حتى لا يمكن القول إن الجماعة بها فصيل صوفي بعد حسن البنا!

هذا فضلاً عن أن الأزهر بتاريخه الحديث، هو أحد مكونات الدولة العميقة. ولقد ظل حتى العشرين سنة الأخيرة عصياً على الحركات الإسلامية؛ لأسباب يطول شرحها. وكان أول ظهور لهذه الحركات للرأي العام بعد المظاهرات الشهيرة، احتجاجاً على قيام وزارة الثقافة بطبع رواية تسيء للذات الإلهية، وهي "وليمة لأعشاب البحر" للسوري "حيدر حيدر"، وبعد مقال للدكتور "محمد عباس" نشرته جريدة "الشعب"، وهي المظاهرات التي أزعجت مبارك، فجمد حزب العمل، وأوقف صدور جريدته!

وقبل هذا وبعده، فالرجل ليس له اهتمامات سياسية، تدفعه لرفض الانقلاب العسكري، انحيازاً لقيم الديمقراطية، وعلى أساس أن من جاء بالصندوق لا يرحل إلا بالصندوق، وأن الرئيس المنتخب لا يجوز خلعه بالمظاهرات!

إنه ربما لم يكن راضياً عن الثورة بشكل عام، ومن المؤكد أنه لم يرضه عزل مبارك بهذه الطريقة، عندما يتداخل الخاص بالعام!

وأعتقد، والحال كذلك، أن قيام الشيخ الطيب بما قام به، من باب الإنصاف، يعد غريباً على تكوينه وانحيازاته، لكنه فعله استشعاراً منه لقيمة الموقع الذي يشغله، فليس هو موظفاً في بلاط السلطة، وليس مجرد ابن لأسرة ورثت مشيخة الطريقة الخلوتية. فهو يستشعر قيمة منصب شيخ الأزهر، عندما يريد عبد الفتاح السيسي تطويعه أو السيطرة عليه، لصالح أشياء في ذهنه، وتصورات "خزعبلية" تجعله يعتقد أنه "فقيه العصر" و"مجدد الفكر الإسلامي"، فلا يمكنه الشيخ من فرض هذه التصورات!

جاد الحق لم يكن مستقلاً

لم يكن الشيخ جاد الحق، صاحب موقف سياسي مستقل قبل اختياره شيخاً للأزهر، بل كان ينتمي لفرع مشايخ السلطة ورجال الحكم؛ الذي يطوع الفكر الديني لخدمة الأغراض السياسية. فقد كان من اللجنة التي أعدت قانون الأحوال الشخصية، المعروف إعلامياً بـ"قانون جيهان السادات"، وكان عضواً في اللجنة التي شكلتها مباحث أمن الدولة للرد على شهادة الشيخ صلاح أبو إسماعيل في قضية تنظيم الجهاد، ودافع في بيان الرد عن اتفاقية السلام مع إسرائيل التي وقعها السادات، وهي الشهادة التي أهدرتها المحكمة ووبخت أعضاءها لأنها شكلت بغير طلب منها!

بيد أنه بمجرد أن عُيّن شيخاً للأزهر، فقد استشعر معنى المنصب، وتصرف على أساسه، وبالغ في إظهار الاستقلال عن السلطة، لدرجة رفضه عقد مؤتمر السكان في القاهرة، وكانت السلطة تحتمي في الرأي الديني للمفتي الشيخ سيد طنطاوي، في مواجهة هذا الرأي المستقل الذي يحرجها، وبعض هذه الآراء كانت تخرج مسكونة بمبالغات كبيرة، عندما يتبنى المؤتمر قضية رفض ختان البنات، فيُفتي الشيخ بأنه لو أن بلداً امتنعت عن الختان، لوجب على الحاكم المسلم قتالها!

كان الزمن مختلفا بطبيعة الحال، وكانت الدولة حريصة على أن تبدو كبيرة، من خلال شغل المناصب العليا بالكبار، ولم يكن قد وصل الانحدار لكل شيء كما حدث بعد ذلك. ولنا أن نعلم (فنتحسر على ما وصلنا إليه) أن وزيراً يغادر موقعه بعد ربع قرن من شغله، فتحتاج زوجته للسفر للخارج للعلاج، فيلجأ إلى بيع قطعة أرض ورثها عن والده!

وكان مبارك عنده ضعف تجاه الشيخ "جاد الحق"، فلعله لم يحفظ جميلاً لأحد قدر حفظه لجميله. فقد كان والد مبارك يعمل موظفاً صغيراً في دائرة القضاء الشرعي التي كان يترأسها الشيخ "جاد الحق"، ولم يكن مبارك منحازاً لوالده، لكنه لم ينس أن "جاد الحق" هو من توسط له للالتحاق بالكلية الجوية. ومبارك بطبيعته لا يحفظ جميلاً لأحد، ولعل هذا كان استثناء يؤكد القاعدة.

الالتزام بالأصول

ولم يكن الشيخ "جاد" كبيراً قبل أن يصبح شيخاً للأزهر، لكنه صار كذلك باستشعاره معنى أن يكون شيخاً للأزهر الشريف، وهي نفس الحالة التي تلبست الشيخ الطيب، فتصرف وفق قيمة المنصب، وهو الأمر الذي التبس عليّ في البداية عندما رفض الاستقالة من لجنة السياسات، لكنه موقف يكشف طبيعة شخصيته التي تتحكم في أدائه الآن!

إنه رجل صعيدي، تشغله مسألة الالتزام بالأصول، أو ما يتصور هو أنه من "الأصول"، فليس جائزاً أن يستقيل من عضوية حزب ورئيس هذا الحزب الذي منحه العضوية في الخارج للعلاج، حتى وإن بدا تمسكه بالعضوية أمراً معيباً لمن هو في موقعه الجديد، شيخاً للأزهر، وانتظر حتى يعود مبارك فيعفيه من هذا الالتزام.

إنه ذاته الرجل الذي تقدم له مستشاره السفير رفاعي الطهطاوي بالاستقالة بعد الثورة رفعاً للحرج؛ لأن ابنه وابنته أصيبا في الثورة فقرر الانخراط فيها، فقال له: "أتريد بهذه الاستقالة أن تقول إنني لست رجلا مثلك وأتحمل تبعات عملك معي؟".. ولم يقبل الاستقالة إلا بعد إلحاح شديد من "الطهطاوي"، مع انحيازه الكامل لمبارك!

يريد عبد الفتاح السيسي أن يتخلص من الشيخ الطيب؛ لأن لديه مشكلة تجاه أي شاغل لمنصب كبير لم يختاره هو، ولم يبق أحد في موقعه من بقايا عهد ما قبل الانقلاب، وآخر من استغنى عن خدماتهم كان وزير الدفاع، ولم يبق إلا شيخ الأزهر، ثم إن لديه عقدة مع المناصب المستقلة، وقد عزل شاغليها جميعهم وعيّن غيرهم بدون ضرورة موضوعية، ولم يبق إلا شيخ الأزهر!

وقد قال السيسي له: "لقد تعبتني يا فضيلة الامام"؛ لأنه يريد أن يعامله على أنه من أصحاب الفتوحات الربانية، ولعله المهدي المنتظر ولم يمكّنه الشيخ من ذلك. وفي مواجهة طلبه (السيسي) بأن يقع الطلاق أمام القاضي، جمع (الطيب) هيئة كبار العلماء لتصدر فتوى بالإجماع برفض ذلك!

ربما يفكر السيسي في أن يشمل تعديل الدستور إلغاء التحصين لموقع شيخ الأزهر، لكنه من المؤكد سيتراجع؛ لأن الناس ستتحرك لرفض جملة التعديلات انحيازا لشيخ الأزهر، الذي ارتقى رمزاً في الوجدان الشعبي!

ولم يبق أمام السيسي إلا أن يستمر في الرهان على دفع الشيخ للاستقالة من تلقاء نفسه، بالتضييق عليه وتحريض أزلام المرحلة للهجوم عليه في وسائل الإعلام، لكنه يواجه بشخص يعتبر أن صموده في موقعه من الرجولة!

قيمة الطيب

"الطيب" سيد في قومه، وبيتهم في الصعيد مفتوح لقاصديه وعابري السبيل، بوصفه ابن عائلة صوفية عريقة، وبالنشأة هو ابن بيئة يتخرج منها من قد يعتبرهم الجاهل غريبي الأطوار، فيؤخذون بالسهولة واللين، وليس بحملهم بالقوة، ولو كان مبارك حاضراً وقال للشيخ: استقل، لاستقال؛ لأن مبارك بكل عيوبه كان يعرف إلى حد ما أقدار الناس، وهي خصلة يفتقدها السيسي الذي يتعمد إذلال الجميع!

في مذكراته كتب الدكتور يوسف القرضاوي، أن الشيخ الطيب أدهشه عندما أخبره بأن مدير جهاز مباحث أمن الدولة يريد الالتقاء بهما معا، وأن الموعد المحدد تقرر في مكتب اللواء مدير الجهاز، وسبب الدهشة أن الأصل أن شيخ الأزهر لا ينتقل لأحد في مكتبه. وعندما تابعت الخلاف المكتوم بين الشيخ والسيسي، عرفت كيف يلين هناك ويصمد هنا، وأيقنت أنها طريقة التعامل. فمؤكد أن مدير الجهاز بالغ في تبجيله، حد الإحراج، وهو في النهاية صوفي من "أهل الله"؛ يضعف أمام عبارات المجاملة!

وعبد الفتاح السيسي لا يريد سادة في أي موقع.. إنه يريد "عساكر مراسلة" من هؤلاء الذين يقومون على خدمة الضباط وأسرهم، فيغسلون ملابسهم ويقضون حاجاتهم، ويشترون الخضار لـ"المدام"!

احتفالات المولد النبوي كانت كاشفة عن الأزمة المكبوتة، بين مستويين، بعيداً عن المناصب، فإن "الطيب" لو لم يكن شيخاً للأزهر، لظلت مكانته الدينية محفوظة، وتجعل منه قيمة لدى أتباع طريقته، وهم بالآلاف، فيقبّلون يده، ولاستمرت قيمته في قومه باعتباره من وجهاء الصعيد، لكن السيسي لو غادر فلن يهتم به جيرانه، ربما لم يكونوا يعرفونه وهو ضابط كبير في الجيش!

"الطيب"، بعيداً عن كل الوظائف التي شغلها، لديه وضعا اجتماعيا.. و"السيسي"، بعيداً عن آخر منصبين شغلهما، مجرد ضابط على المعاش!