كتاب عربي 21

مسعى خرافي أمريكي نحو تشكيل "ناتو" عربي

1300x600
لا يعدو المسعى الأمريكي نحو تشكيل "ناتو عربي" عن كونه طرفة استراتيجية سخيفة، تنسجم مع الوقائع السوريالية السحرية للأنظمة العربية ما بعد تدمير الحراكات الاحتجاجية والانتفاضات الثورية، وإعادة تأهيل السلطويات العسكرية المحلية؛ عبر نسج صداقات غرائبية مع المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية، وخلق عداوات مزدوجة تخيلية؛ الأولى خارجية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية (الشيعية)، والثانية داخلية مع المنظمات العربية الإسلامية (السنية)، في إطار هيمنة منظورات التصدي للمخاطر الإرهابية. وقد اعتاد المواطن العربي منذ أزمان على سماع الترهات الاستراتيحية العربية الخيالية. فحسب إميل هوكايم، من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، في "كل عدة سنوات يخرج علينا البعض بفكرة كبيرة.. ويعملون عليها مثل المجانين، وتنتهي بعمارة جديدة وألواح من شرائح باور بوينتس".

في ظل تنامي حالة العسكرة عالميا منذ تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي تزامن قدومه مع بولسة المجتمع العربي وعسكرة الدولة العربية ازدهرت المقترحات بتشكيل تحالفات عسكرية في الشرق الأوسط بقيادة أمريكية، ومن أبرزها مشروع تأسيس "ناتو عربي"، وهي تسمية مضللة تقوم على إنشاء تحالف أمني محدود من الدول الخليجية الست (السعودية والإمارت والكويت وقطر وسلطنة عمان والبحرين)، إضافة لمصر والأردن. ويعرف هذا التحالف بشكل غير رسمي باسم "الناتو العربي"، كما يحمل أيضا أسماء مثل "ميسا" و"تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي".
تنامت مقترحات إنشاء تحالف عسكري عربي واسع برعاية أمريكية عقب اندلاع ثورات الربيع العربي 2011، لتجنب تداعيات انتقال موجة الاحتجاجات والانتفاضات الشعبية إلى دول الخليج خصوصا، وبقية دول العالم العربي عموما. وقد أعيد إحياء المقترح عام 2015، بعد الانقلاب على فعالية الثورات العربية والتخلص من حركات الإسلام السياسي تحت شعار "حرب الإرهاب"، وعسكرة الثورات العربية، ما أدى إلى تصاعد الحركات الجهادية العربية. لكن الإدارة الأمريكية السابقة في حقبة باراك أوباما لم تكن متحمسة للفكرة، مع تبنيها مبدأ "التوازن الاستراتيجي" الذي يقوم على أولوية التوجه نحو منطقة جنوب شرق آسيا للتصدي للدور المتنامي للصين وروسيا، والانسحاب جزئيا من منطقة الشرق الأوسط. وحسب صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، فإن مستشار الأمن القومي الجنرال السابق مايكل فلين، قبل استقالته من فريق ترامب، كان قد دعا الحكومة الأمريكية، في حزيران/ يونيو 2015، إلى تشكيل كيان وإطار عمل عربي شبيه بـ"الناتو"؛ ودعمه، وذلك في سبيل مواجهة إيران و"داعش".

مقترح فلين أصبح موضع اهتمام ونظر لدى الإدارة الأمريكية، عقب انتخاب دونالد ترامب في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016؛ رئيسا للولايات المتحدة، حيث اتجه لتبني خطاب أكثر حدّة تجاه إيران، والتفكير بالانسحاب من الاتفاق النووي معها، وعادت فكرة إنشاء التحالف بقوة بعد أن طرحت السعودية فكرة إقامة تحالف أمني قُبيل زيارة الرئيس الأمريكي ترامب إلى المملكة في 22 أيار/ مايو 2017. ورغم أن بيان الرياض تجنب ذكر إيران، نظرا للاختلافات، لكنه أشار إلى ضرورة العمل على إنشاء "تحالف لمكافحة الإرهاب والتطرف والقرصنة". ومع افتعال الأزمة مع قطر عقب قمة الرياض، تأجل المقترح. وكانت إسرائيل أكثر المتحمسين لإنشاء "ناتو عربي". وقد كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية في شباط/ فبراير 2017؛ أنّ إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجري محادثات مع عدد من حلفاء واشنطن العرب لتشكيل تحالف ضد إيران، سيتبادل معلومات استخباراتية مع "إسرائيل"، من دون أن تكون جزءاً منه. أوضح المسؤولون أنّ السعودية والإمارات بصدد تقديم مطالبهما مقابل تعاونهما مع "إسرائيل"، ملمحين إلى أنّهما تريدان تراجع الولايات المتحدة عن قانون "جاستا" الذي يتيح لأهالي ضحايا اعتداءات 11 أيلول/ سبتمبر محاكمتهما، وإلى أنّ مسؤولي إدارة ترامب وعدوا بممارسة الضغط على الكونجرس بهدف تعديله.

مؤخرا، أعيدت مرة أخرى إحياء فكرة تأسيس "ناتو عربي. فبحسب وكالة "رويترز"، استنادا إلى عدة مصادر، فإن إدارة ترامب تأمل في أن تتم مناقشة ذلك التحالف، الذي أُطلق عليه مؤقتاً اسم "تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي"، خلال قمة تقرر مبدئياً أن تعقد في واشنطن في 12 و13 تشرين الأول/ أكتوبر 2018. وفي هذا الإطار، قال نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الخليج العربي، تيم لاندركينغ، إن الإدارة الأمريكية تخطط لعقد قمة في كانون الثاني/ يناير المقبل لتدشين الحلف الجديد. ويشير تقرير لمجلة "إيكونوميست" إلى أن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو؛ التقى في أيلول/ سبتمبر الماضي مع ممثلي دول مجلس التعاون الخليجي، بالإضافة إلى كل من الأردن ومصر، وأكد أنهم يقومون بتشكيل تحالف الشرق الأوسط "ميسا"، وقدموا تصريحات للاستهلاك حول مواجهة الإرهاب وتهدئة سوريا، لكن كانت الأولوية واضحة: "وقف نشاطات إيران الخبيثة"، إذ يسعى "الناتو العربي" الخيالي المقترح لتعزيز التعاون العسكري والأمني والسياسي والاقتصادي بين هذه الدول، بزعم إرساء الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط؛ عبر بناء منظومة دفاعية صاروخية مشتركة، وما يسمى مكافحة الإرهاب، والتصدي للتهديدات والتوسع الإيراني.

لا جدال بين الخبراء والباحثين أن مقترح إنشاء "ناتو عربي" لا يعدو عن كونه خياليا،فبحسب يزيد صايغ كبير الباحثين بمركز كارنيغي لدراسات الشرق الأوسط لموقع ديفينس نيوز: "إن فكرة الناتو العربي غير مقنعة فهي ببساطة لن تحدث". وأضاف قائلا: "مرت أربع سنوات منذ إعلان السعودية عن تحالف إسلامي كبير لمكافحة الإرهاب، ولم يسفر عن شيء. كما أن مجلس التعاون الخليجي فشل في الاتفاق في الجانب الدفاعي، بل وفشلت السعودية والإمارات في شن حرب منسقة في اليمن، لذلك لا يوجد مؤشر على إمكانية تنظيم حلف كالناتو العربي". وحسب 
صحيفة "واشنطن تايمز"، فإن التحالف المزمع "سيساعد على تقليل الأعباء المالية التي تتحملها الولايات المتحدة في المنطقة، أيضاً بناء شريك موثوق به في الشرق الأوسط".

في هذا السياق، تساءل الباحث في معهد "كاتو"، دوغ باندو، المساعد الخاص السابق للرئيس رونالد ريغان، في مقال نشره موقع "ناشيونال إنترست"، مستنكرا: كيف نفسر تركيز إدارة ترامب على طهران؟ إيران هي حطام اقتصادي وفوضى سياسية، وتفتقر إلى جيش تقليدي فعال. وعلى هذا، فمن الواضح أنه لا يمكن أن يهدد أمريكا بشكل خطير. وعلاوة على ذلك، فإن قدرات طهران طغت بشكل مثير ومريب على ترسانة إسرائيل النووية، والجيش السعودي المدعوم بسخاء، والحرب الوحشية الإماراتية السعودية في اليمن. وفي ذات الوقت، فإن "الإرهاب" الذي سيحاربه التحالف إلى جانب إيران، ساهمت الدول المقترحة بتناميه، إذ سهلت جميع دول الخليج تقريبا تمويل "الإرهاب" على مر السنين. ومن هذا، فالتحالف المفترض منقسم ومتباين حتى قبل تشكيله. فالسعودية والإمارات تريدان أن تسيطرا على جيرانها، وعملت الكويت وعمان تقليديا وسيطا بين جيرانهما، ولا يتفق أعضاء التحالف المفترضون على التهديد المحتمل من قبل إيران.

يصعب العثور على رأي جاد حول تشكيل "ناتو عربي"، فحسب مجلة "إيكونوميست" في تقييمها لمحاولات الإدارة الأمريكية إنشاء تحالف عربي أو ناتو عربي، خلصت إلى إن فرص نجاحه ضئيلة، خاصة أن دول المنطقة لديها مشكلات كافية ولا يمكن التعامل مع بعضها. وسخرت بالقول إنه "عندما وضع الرئيس دونالد ترامب والملك سلمان وعبد الفتاح السيسي أيديهم على مجسم مضيء لكرة أرضية، في الرياض العام الماضي، كانت اللفتة المسرحية محلا للدهشة والسخرية، لكن يبدو أن مجسم الكرة الأرضية اجترح السحر".

لا جدال أن المقترح الأمريكي لتأسيس "ناتو عربي" يأتي في إطار انهيار العالم العربي، وسيادة المنظور الإسرائيلي للأمن والسلام، وقد أكدت ردود فعل الأنظمة العربية عقب اعتراف الإدارة الأمريكية بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس؛ بأن المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية باتت صديقة حميمة للأنظمة العربية في المنطقة، وهي صداقة تتمتع بعداء معظم الشعوب المضطهدة التي تناهض سياسات الإمبريالية الأمريكية والاستعمارية الإسرائيلية والأنظمة العربية الدكتاتورية.

ومع الانقلاب على الانتفاضات الشعبية العربية بتضامن المنظومة الثلاثية، تسارعت وتيرة إعادة تعريف الأصدقاء والأعداء، بحيث أصبح "الإرهاب" المفروض غير المفترض المحدد الأساس في توجهات أصدقاء "حرب الإرهاب"، وأصبح العدو يتمثل بالإرهابيين، وهم خليط واسع من الإسلاميين يضم حركات وأحزاب وجماعات سنيّة وشيعيّة من الجهاديين والمقاومين إلى الإخوان المسلمين، ورعاة الإرهاب المفترضين الرئيسيين من الدول الفاعلة في المنطقة وهي إيران وتركيا وهي منظومة ثلاثية أخرى تناهض الإميريالية الأمريكية والمستعمرة الإسرائيلية والأنظمة الدكتاتورية بطرائق شتى.

لا تنفك الولايات المتحدة الأمريكية عن الإعلان عن بناء تحالفات جديدة لمواجهة إيران والحد من نفوذها في الشرق الأوسط، وهي منطقة حيوية لأمريكا لأسباب مادية ورمزية. إذ استندت واشنطن منذ تدخلها في المنطقة إلى استراتيجية نقوم على الالتزام بأمن وحماية "إسرائيل"، وضمان إمدادات تدفق أموال "النفط"، الأمر الذي يتطلب خلق حالة صراعية وجودية مع عدو حقيقي أو متخيل؛ يمثل الشر تجسد في المخيال الأمريكي في صورة إيران. تلك وصفة بسيطة تساهم بإعادة تعريف الصديق والعدو، وتؤسس لبناء تحالفات إقليمية تمهد لاستدخال المستعمرة الاستيطانية المسماة "إسرائيل" في نسيج الشرق الأوسط السياسي والاقتصادي.

خلاصة القول أن فكرة إنشاء "ناتو عربي" لا تعدو عن كونها خيالية، لكنها تقع في إطار استنزاف المنطقة في تحالفات لمحاربة أعداء متخيلين، وفق ديناميات "حرب الإرهاب" المتخيل. ففي ظل غياب "عدو" فعلي، بعد أن تحولت المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلة إلى صديق، تنامت ديناميات اختراع "عدو" داخلي تمثل بـ"الإرهاب"، وخارجي تمثل بإيران. فرغم الحديث عن "ناتو عربي"، فإن "الولايات المتحدة لم تتبن سياسة لتغيير النظام في إيران أو دفعه للانهيار"، حسبما صرح وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس في 26 تموز/ يوليو 2018. فبحسب ماتيس، "الهدف لا يزال تغيير سلوك إيران في الشرق الأوسط. نريدهم أن يغيروا سلوكهم فيما يخص عدداً من التهديدات التي يمكن أن يشكلها جيشهم ومخابراتهم ومن ينوبون عنهم ووكلاؤهم". وبهذا، فإن مقترح "ناتو عربي" هو استثمار أمريكي إسرائيلي في ضمان خراب العالم العربي والإسلامي.