كتاب عربي 21

هل فتحت تركيا وألمانيا صفحة جديدة في علاقاتهما؟

1300x600

أنهى الرئيس التركي قبل أيام زيارة مهمة إلى ألمانيا، هي الأولى له منذ تطبيق النظام الرئاسي وإعادة انتخابه رئيساً لبلاده، وهي كذلك الأولى له لبرلين منذ عام 2014. وقد استـُقبل على مستوى رفيع من قبل الرئيس شتانماير والمستشارة ميركل، فضلاً عن فعاليات أخرى مرافقة. وقد وصف أردوغان الزيارة بأنها كانت ناجحة جداً، و"بداية لفتح صفحة جديدة" في العلاقات بين أنقرة وبرلين.

الاحتفاء بأردوغان في ألمانيا، وإن لم يكن مبالغاً فيه، كان لافتاً بالمقارنة مع مسار العلاقات الثنائية مؤخراً. فقد شهد العام 2017 أزمات متتالية لتركيا مع عدد من الدول الأوروبية منها ألمانيا، أذكتها المناسبات الانتخابية في هذه الدول وتركيا، على حد سواء.

منعت ألمانيا أردوغان من إقامة مهرجانات انتخابية على أراضيها، واتهمته بالتدخل في الشأن الداخلي للتأثير على الأتراك المتواجدين في ألمانيا، والمقدر عددهم بحوالي 3.5 ملايين، أكثر من نصفهم يحملون الجنسية الألمانية، بينما قدم لهم أردوغان نصيحة علنية بعدم انتخاب حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي تقوده ميركل. أوقفت تركيا صحفيين يحملان الجنسية الألمانية، بينما أوقفت برلين عدداً من الأئمة الأتراك اتهمتهم بالعمل لصالح جهاز الاستخبارات التركية.

مع انقضاء 2017 والابتعاد شيئاً فشيئاً عن حدة الحملات الانتخابية وخطاباتها النارية التي تفيد في جمع الأصوات، خفّت حدة الخلافات نوعاً ما بين تركيا والدول الأوروبية، فتحسنت العلاقات مع النمسا، وعاد السفير الهولندي لأنقرة والتركي لأمستردام، كما بدأت مسيرة تطبيع للعلاقات بين أنقرة وبرلين في عهد وزير الخارجية الألماني السابق غابرييل؛ حين زار نظيره التركي في بيته وردها له تشاووش أوغلو، لكن وتيرة التقارب تسارعت بشكل ملحوظ مؤخراً.

فقد دعمت ألمانيا الموقف التركي بخصوص إدلب وباركت اتفاق سوتشي، كما وقفت إلى جانبها (سياسياً وفي التصريحات على الأقل) - في مواجهة العقوبات الأمريكية وخلال أزمة تركيا المالية، معتبرة أن "استقرار الاقتصاد التركي مصلحة ألمانية". ويبدو هنا أن الولايات المتحدة (ترامب بالأحرى) عامل مساعد رئيس في تقارب الطرفين، باعتبار انزعاج تركيا من العقوبات الأمريكية الاقتصادية، فيما تسكن برلين هواجسُ تراجع الالتزام الأمريكي بأمن أوروبا واقتصادها والعلاقة التحالفية معها، بدءاً من الناتو ومروراً بالانسحاب من اتفاق الشراكة عبر المتوسط، وليس انتهاءً بالضغوط الأمريكية على الدول الأوروبية بخصوص العقوبات على طهران.

ثمة مصالح كثيرة وكبيرة تجمع بين الجانبين، في مقدمتها الاقتصاد، حيث أن ألمانيا هي الشريكة الاقتصادية الأولى لتركيا بحجم تبادل تجاري تخطى 36 مليار دولار عام 2017، والأمن ومكافحة الإرهاب، فضلاً عن ملف اللاجئين الحساس جداً بالنسبة لألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي. لكن ذلك لا ينفي أيضاً وجود ملفات خلافية مزمنة بين الطرفين، حيث تتحفظ أنقرة على استقبال برلين لأشخاص محسوبين على الكيان الموازي والعمال الكردستاني ومنحهم الجنسية الألمانية، بينما تمارس برلين دورها الوصائي (كأكبر الدول الأوروبية) على تركيا في مجالات الديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرهما.

التقى أردوغان بشتانماير الذي نظم مأدبة على شرف ضيفه، كما التقى مرتين مع ميركل، وألقى كلمة في افتتاح المسجد المركزي في كولونيا غرب ألمانيا، ما أعطى انطباعات عن مسار جديد في علاقات الطرفين. وقد حرص أردوغان خلال كلمته على التأكيد أن المسجد الجديد "مسجد كل ألمانيا" في رسالة تطمينية بخصوص الهواجس بشأن ولاء أتراك ألمانيا، ولتخفيف حدة الرفض لدى اليمين وبعض المسوؤلين الألمان.

أكثر من ذلك، فقد استخدمت ميركل للمرة الأولى مصطلح "فيتو" المستخدم تركياً لوصف الكيان الموازي المصنف منظمة إرهابية، وليس مصطلح تيار أو جماعة كولن، وهي لفتة اعتبرها البعض إشارة لتجاوب ميركل مع طلب أردوغان إدراج ألمانيا للكيان ضمن قائمة المنظمات الإرهابية. يبدو ذلك تقييماً مبكراً بطبيعة الحال، إذ قد لا يتخطى الأمر حدود المجاولة أو المناورة أو حتى زلة اللسان، لكن حديث ميركل عن "تفهم بلادها" لمطالب تركيا بهذا الخصوص و"حاجتها لاستكمال المعلومات والتحقق" من الأمر؛ يعد أمراً إيجابياً بكل الأحوال.

في المؤتمر الصحفي الذي جمعهما، لم ينكر أردوغان وميركل الخلافات القائمة بين البلدين، ولكنهما تحدثا عن توافقهما على إدارتها والحوار لحلها والتركيز على المصالح المشتركة بينهما. بهذا المعنى، يمكن القول إن الطرفين قد فتحا فعلاً صفحة جديدة في العلاقات بينهما، لكن ليس على قاعدة العودة الكاملة للمسار الأوروبي في السياسة الخارجية التركية وعودة الاتحاد الأوروبي للعلاقات السابقة مع أنقرة، وإنما على قاعدة طي صفحة التصعيد بينهما ورفد مسارات التعاون.

ومن أهم مسارات التعاون، يتبدى الملف السوري الذي تلتقي فيه أهداف تركيا مع الاتحاد الأوروبي، أكثر بكثير مما تلتقي مع الولايات المتحدة وروسيا. فقد حرصت أنقرة على تحصين موقفها بخصوص إدلب وإعطائه بُعداً أوروبياً - دولياً، وهو ما منحته إياه المواقف الألمانية والفرنسية. كما أن القمة الرباعية التي ستجمع كلاً من ألمانيا وفرنسا مع روسيا وتركيا تعتبر عودة أوروبية للقضية السورية من البوابة التركية، وهي بذلك مصلحة ألمانية/ أوروبية؛ تلتقي مع مصلحة أنقرة بموقف أوروبي يوازي ويوازن، ولو نسبياً، واشنطن وموسكو في سوريا.

يبقى أن نقول إن المرحلة الجديدة في العلاقات لا تتضمن بالضرورة إعادة تفعيل لملف عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي. فقد رفضت ميركل ضمنياً مطالب أردوغان بدعم بلادها في إعادة فتح فصول التفاوض وتحرير تأشيرة شينغن وتطوير الاتحاد الجمركي، من خلال تجاهلها هذه المواضيع في كلمتها. وهو أمر يطرح علامات استفهام إضافية حول مدى استراتيجية التقارب الأخير أو كونه مجرد ردة فعل على توتر الطرفين وانزعاجهما من واشنطن من جهة، ويؤكد من جهة أخرى حاجة الجانبين لبلورة حل وسط بين العضوية الكاملة والقطيعة التامة، شيءٍ قريب من الشراكة الخاصة أو الاستراتيجية يمكن أن يرضي الطرفين على المدى البعيد.

ولكن في كل الأحوال، فإن التقارب مع أوروبا والتنسيق معها مصلحة مؤكدة لتركيا. فإذا ما كانت المناورة بين القطبين موسكو وواشنطن قد منحت أنقرة فرصاً مهمة حتى الآن (مقابل مخاطر وخسائر أيضاً)، فإن إضافة ضلع أوروبي ثالث لهما سيضفي لذلك مرونة أكثر وتوازناً أكبر ومصالح أوسع ولا شك.