قضايا وآراء

لا أفضلية للاحتلال الروسي على الاحتلال الإسرائيلي في سوريا

1300x600
لا يملك الاحتلال الروسي أي أفضلية أخلاقية تاريخية أو سياسية على الاحتلال الإسرائيلي في سوريا، كون روسيا نفسها لا تملك أي أفضلية أخلاقية تاريخية أو سياسية على إسرائيل، ومساندتها أو دعمها التكتيكي لبعض قضايا العالم الثالث كان جزءا من صراعها الإمبراطوري الاستعماري مع الولايات المتحدة والغرب بشكل عام. وعندما اصطدمت مطالب وطموحات الشعوب بمصالحها، لم تتورع عن ارتكاب المجازر والجرائم بشكل مباشر أو غير مباشر عبر حلفائها، كما رأينا في الشيشان والقرم والبوسنة وكوسوفو، وأخيراً في سوريا.

هذا التاريخ الدموي صاحب روسيا طوال الوقت في الحقيقة، وفقط في زمن طغيان إعلام أحمد سعيد، والحالة المسعورة التي بات فيها مختل مثل معمر القذافي أمينا للقومية العربية، تم نسيان أو تجاهل كل جرائم الدولة الروسية التي لم تتوقف طوال السنوات، بل العقود والقرون الماضية.

قمعت روسيا بشدة ثورة الإمام شامل في داغستان والشيشان، وارتكبت مجازر حرب ومجازر ضد الإنسانية بحق الثوار في القوقاز وآسيا الوسطى في منتصف القرن التاسع عشر. روسيا طالما اعتبرت نفسها في حالة عداء حضاري، ليس فقط جيوسياسيا، مع الدولة العثمانية التي كانت آخر تعبير مؤسساتي دولتي عن الحضارة الهوية الإسلامية الجامعة التي أدّبت الغرب، حمت القدس والمنطقة لسنوات، بل لعقود وقرون من مطامعه وجرائمه.

أثناء أزمة الطائرة الروسية مع تركيا قبل ثلاث سنوات، طالبت بعض الأصوات القومية في روسيا باسترجاع كنيسة آية صوفيا ضمن تسوية أو تفاهم محتمل مع تركيا.

بدأت الثورة البلشفية بشكل جيد قطع مع الأحلام الإمبراطورية التوسعية الروسية بانسحابها، بل بفضحها اتفاقية سايكس- بيكو، إلا أنها سرعان ما عادت إلى طبعها خاصة مع تولي جوزيف ستالين قيادة الاتحاد السوفييتي بنفس الأطماع التوسعية الروسية، وقام بالتهجير الجماعي لأهلنا المسلمين في القرم إلى سيبيريا، في أربعينيات القرن الماضي حيث قتل مئات الآلاف منهم، وهي الجريمة التي لم تسقط بالتقادم، فقط طويت صفحتها في أجواء النفاق والازدواجية الدولية.

بعد الحرب العالمية الثانية، وفي حقبة الحرب الباردة دعم الاتحاد السوفييتي قضايا العالم الثالث العادلة - ليس كلها - فقط في سياق الصراع مع أمريكا والغرب، هذا لم يمنعه من القمع الدموي والوحشي لانتفاضة المجر 1956 وربيع براغ 1968، ودعم كل الأنظمة الديكتاتورية المساندة له في أمريكا اللاتينية أفريقيا وآسيا، بما فيها الأنظمة الاستبدادية العربية، تماماً كما فعلت أمريكا مع الأنظمة الشبيهة الحليفة لها.

حتى مع انهيار الاتحاد السوفييتي ووراثة روسيا له على كل المستويات السياسية الدبلوماسية الأمنية العسكرية، دعمت روسيا مذابح وجرائم الصرب في البوسنة، الجرائم التي ارتكبت بسلاح روسي وتغطية وحماية روسية سياسية وديبلوماسية وقانونية في مجلس الأمن والمؤسسات الدولية ذات الصلة، وهو نفس ما حصل مع إخواننا أهلنا الألبان في كوسوفو.

أما جريمة العصر الروسية، فقد وقعت في الشيشان عندما رفض إخواننا الشيشانيون هيمنة وتسلط الروس عليهم، كان لديهم رئيس ديمقراطي منتخب، وخاضوا مقاومة شعبية (تشبه مقاومة الفلسطينيين وشعوب العالم الثالث في أفريقيا وآسيا ضد الاستعمار الغربي وضد إسرائيل)، ردت موسكو مع وصول بوتين للسلطة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية عبر ما بات يعرف بالخيار الشيشاني، الذي دمرت فيه العاصمة غروزني عن بكرة أبيها. والخيار الشيشاني هذا كان أحد الأسباب المركزية لإعجاب القادة الإسرائيليين ببوتين، من إيهود باراك إلى أرئيل شارون، مروراً بأفيغدور ليبرمان.. قالوا إنهم يتمنون، ولكن لا يستطيعون فعل الشيء نفسه ضد الفلسطينيين والعرب المعادين لهم. باراك تحدث طوال الوقت عن إعجابه وانبهاره ببوتين الذي يلاحق أعداءه الإرهابيين حتى الحمام، دون اكتراث بالقوانين أو المواثيق الدولية. ورغم العلاقات الإسرائيلية الجورجية الجيدة، إلا أن القادة الإسرائيليين الاستعماريين والدمويين كانوا معجبين بطريقة تصرف بوتين مع جورجيا أيضاً دون اكتراث للقوانين االمعاهدات والمواثيق الدولية.

في السياق الفلسطيني، لا بأس من التذكير بأن الاتحاد السوفييتي كان سباقا بالاعتراف بقرار التقسيم (1947)، وطبعاً بالدولة العبرية (1948) بمجرد إعلانها، واستمرت العلاقة الديبلوماسية طوال الوقت حتى نكبة حزيران/ يونيو 67 التي عجزت فيها الدول العريبة المدعومة سوفييتياً عن مواجهة إسرائيل المدعومة غربياً.

روسيا كانت شريكة، ولو شكلاً وإسماً، في عملية التسوية الفاشلة (عملية مدريد- أوسلو)، وهي عجزت عن تبني أي موقف مناقض للتوجهات الأمريكية وسياستها الإقليمية تعتبر دعم أمن إسرائيل والحفاظ عليه من الثوابت. وهنا يجب تذكر موقف روسيا من حرب غزة الأخيرة، أو حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها في مواجهة الإرهاب، كما قال وزير الخارجية لافروف لتبرير أو تغطية جرائمه في القرم وأوكرانيا.

سورياً، لا يمكن إنكار حقيقة الاحتلال الروسي، وهو جاء أصلاً بغرض حماية منع سقوط نظام بشار الأسد، طبعاً قبل ذلك وبعده استعادة الهيبة الإمبراطورية الروسية التوسعية ومصالحها في المنطقة، مع تذكر أن الاحتلال الروسي جاء أصلاً بعد فشل الاحتلال الإيراني وحشوده الشعبية، في حماية نظام بشار الأسد.

منذ اندلاع الثورة السورية، عملت موسكو على حماية النظام، تماماً كما فعلت مع الصرب في البوسنة، حيث استمرت في تقديم الأسلحة له، وغطت جرائمه بحماية سياسية ديبلوماسية وقانونية في الأمم المتحدة ومؤسساتها.. كانت شريكا مباشرا بعد ذلك في جرائم النظام ضد الشعب السوري الثائر، تحديداً فيما يتعلق باستخدام السلاح الكيماوي ضد المدنيين (في الغوطة هذا العام وخان شيخون العام الماضي).. ببساطة روسيا كانت شريكة بشكل مباشر (كما إيران) في قتل بشار الأسد لمليون من إخواننا السورىين، وتشريد نصف الشعب وتدمير معظم البلد دفاعاً عن النظام، أو الكيان الطائفي الأقلوي الذي يسميه بشار "سوريا المتجانسة" وتسميه طهران وحشدها الشعبي الإعلامي سوريا المفيدة.

أعتقد أننا نعرف جميعاً جرائم إسرائيل المستمرة بحق الفلسطينيين والعرب، حتى قبل إنشائها بشكل رسمي ارتكبت مجازر وتهجيرا جماعيا، وهي كمّاً ونوعاً لا تعادل ما فعلته روسيا أو الاتحاد السوفييتي مع إخواننا وأهلنا في الشيشان والبوسنة وكوسوفو والقرم، ولكنها في الجوهر تعبر عن نفس العقلية الإجرامية الاستعمارية.

وبالعودة إلى سوريا، كنا خلال ثلاث سنوات أمام تفاهم بين الاحتلالين الروسي والإسرائيلي، وكلاهما غير أخلاقي وغير مشروع، ونقطة الالتقاء الرئيسية بينهما تمثلت بدعم نظام بشار الأسد الإجرامي الأقلوي الطائفي، وضمان أمن إسرائيل، كما قال ويقول بوتين علناً ودائماً، بما في ذلك طبعاً حرية إسرائيل في منع تموضع الاحتلال الإيراني بطابعه الاستراتيجي، وليس المرحلي التكتيكي المتعلق بدعم النظام قتل السوريين وتدمير البلد ومقدراته.

ما نراه الآن من خلاف تكتيكي، وليس استراتيجي بين الاحتلالين يتعلق برغبة روسيا في فرض سطوتها واستعادة هيبتها بعد صفعة، بل فضيحة إسقاط طائرة التجسس وبمنظومة تابعة لها، أو حتى إرسال رسائل للغرب وأمريكا، وربما استدراج إسرائيل لتحسين شروط التفاهم بينهما، والذي ساعد في تمرير وتسهيل الاحتلال الروسي لسوريا، وتمكين الاحتلال الإسرائيلي أكثر في المنطقة، بما في ذلك احتلال هضبة الجولان السورية. أما في الجوهر، فلا أفضلية أخلاقية أو سياسية لطرف على آخر بأي حال من الأحوال.