كتاب عربي 21

جدل الهوية والفساد في تونس

1300x600
لا يوحد شعب تونس اليوم وعي مثلما يوحدهم الوعي بتغوّل الفساد وتمكّن شبكة الفاسدين من السيطرة على مفاصل الدولة وعلى القرار السياسي فيها. ولا يوحد نخب السلطة في تونس شيء مثلما يوحدها موضوع الهوية والانتماء ومراجعة الثوابت والقيم الأساسية للدولة والمجتمع بشكل يبعث على الريبة والشك. 

لا يكاد يمر يوم أو نصف يوم دون أن تدوي شبكات التواصل الاجتماعي الفالتة من قبضة السلطة السياسية بفضيحة كبرى من فضائح الفساد وجرائم نهب المال العام والسيطرة الفردية على ممتلكات الشعب وأجياله القادمة. فالأمثلة أكثر من أن تحصى وحجمها يفوق أخصب الخيالات ومداها يتجاوز حدود البلاد ليمتد إلى القارات الخمس. 

كل الوزارات والمؤسسات والمصالح الجماعية قد تحولت إلى أوكار مفتوحة ترتع فيها العصابات المنظمة دون حسيب أو رقيب، بل إن السلطة السياسية غالبا ما تكون طرفا فاعلا في صفقات مشبوهة وعمليات نهب منظمة. أما السلطة القانونية والتنفيذية فتكاد تتحول إلى أداة في أيدي العصابات المتنفذة وهي قادرة على أن تردع كل من تخول له نفسه الحد من سطوتها أو تهديد نفوذها وامتيازاتها. بل إن أحد القضاة اليوم يجد نفسه وراء القضبان بسبب سعيه إلى تفكيك إحدى شبكات الفساد المتنفذة في "مدينة قفصة" بوسط البلاد. 

أقوى من الدولة

لقد أصبح الفساد أقوى من الدولة، بل قد لا نبالغ في القول بأن الدولة هي الفساد وأن الفساد هو الدولة. ليس في هذا الأمر قدر من مبالغة لأن السلطة السياسية تشارك في الفساد بطريقتين: أما الأولى فتتمثل في المشاركة المباشرة عبر تورط وزراء ورجال دولة في صفقات مشبوهة ثابتة بالأدلة والوثائق والبراهين التي عرضها نواب في البرلمان التونسي ووضعوها على ذمة المراقبين. أما الطريقة الثانية فتتمثل في المشاركة غير المباشرة في عمليات السطو على المال العام عبر منع السلطات القضائية أو عرقلة عملها في سبيل عرض الفاسدين على العدالة. 

من جهة أخرى لا تظهر قضايا الفساد على سطح المشهد الإعلامي الرسمي بشقيه الخاص والعمومي بسبب ارتباط الشبكات نفسها بالذراع الإعلامي المتحالف ضمنيا مع الشبكات المسيطرة على ثروات البلاد ومواردها. على هذا السطح الإعلامي المشمول بصبغة الفساد تُثار قضايا أخرى لا علاقة لها بالملف السابق بل تركز كل التركيز على قضايا الهوية والانتماء. وليس "تقرير لجنة الحقوق والحريات" الذي رُفع إلى رئاسة الجمهورية من أجل المصادقة عليه وإعطائه الصبغة القانونية الإلزامية إلا وجها من وجوه هذا التصعيد. 

جدل الهوية

لا تتعلق مضامين التقرير بالحرية الفردية والجماعية بما هي مطلب شعبي وثوري قبل كل شيء بل يتعلق أساسا ببعض الحريات الانتقائية ودعوات إلى المساواة في قضايا فقهية حارقة تمس أسس المجتمع نفسه وركنه الركين وهو العائلة بما هي النواة الصلبة للمجتمع والدولة. المساواة في الإرث مثلا موضوع قد يطرح بين أهل الاختصاص رغم قطعية النصوص التأسيسية في ذلك وهو موضوع لم يجرؤ على إثارته نظام الدكتاتور الأول "بورقيبة" والدكتاتور الثاني "بن علي" لحساسيته الشديدة ولتجنب الصدام مع شرائح واسعة من المجتمع. موضوع "المثلية الجنسية" هو أيضا موضوع صادم في مجتمع محافظ مثل تونس ويثير ردة فعل عنيفة عند أكثر الطبقات مدعاة للتحرر والانفتاح. زد على ذلك أن هاته القضايا الهامشية ليست من أولويات جحافل العاطلين في تونس وملايين المهمشين الذين تطحنهم آلة الفساد والعصابات المرتبطة به كل يوم. 

إذن بين ملفات حارقة تتعلق بمستقبل الثورة وبمستقبل أجيال برمتها وبين ملفات هامشية يعزف عليها الإعلام الرسمي يتشكل جوهر المشهد التونسي اليوم ما بعد الثورة وقبل الاستحقاقات الرئاسية القريبة بما يسمح بإبداء جملة من الخلاصات. 

أولى الملاحظات المتعلقة بالمشهد التونسي إنما تتعلق بطبيعة العلاقة بين الملفين، حيث يكاد أحدهما يلغي الآخر أو يحجبه عن ساحات النقاش والفعل. ففي الوقت الذي تتصدر فيه الدعوات إلى مراجعة العقود النفطية المذلة ومحاسبة المتسببين في هدر المال العام ومصادرة ثروات الشعب التونسي طوال أكثر من نصف قرن من الزمان تسعى نخب السلطة إلى الدفع بملفات جانبية لا علاقة لها باستحقاقات الثورة وشعاراتها. إن مسألة الهوية والانتماء ليست في الحقيقة إلا وسيلة لحجب القضية المركزية في تونس وهي ملف الثروات. 

ثانيا لا يصدر تقرير الحقوق والحريات عن أطراف مستقلة أو مشهود لها بالنزاهة أو عن لجنة برلمانية أو أكاديمية بل يصدر عن مجموعة مرتبطة بالنظام السابق ومشهورة بعدائها الكبير لهوية الأمة وقيمها المركزية، وخاصة ما تعلق منها بالنص القرآني باعتباره مصدرا أساسيا من مصادر التشريع كما ينص على ذلك دستور البلاد. إن انخراط اللجنة المعدة للتقرير أو بقية النخب العازفة على لحن الحرية والتحرر والحداثة الزائفة في بنية النظام الاستبدادي وبشكل لا ينفصل عن المرجعيات الحزبية والتيارات اليسارية لا تسمح لها بإصدار عمل موضوعي بعيد عن الأجندات والأطر المنخرطة فيها. 

ثالثا تتعلق أغلب بنود التقرير ومقترحاته بوضعية المرأة التونسية المستهدفة رأسا بهذا التقرير لكنها بنود لا تتعرض لوضع المرأة العاملة والمرأة الريفية التي لا تزال تعاني أبشع أنواع الاستغلال الاقتصادي من قبل رجال الأعمال والشركات الخاصة والعمومية على السواء. كما أنه لا يتعرض لكل الجرائم المرتكبة في حق المرأة وفي حق الطفولة مثل حالات الاغتصاب والاستغلال الجسدي التي انفجرت عيناته في المدة الأخيرة بكامل البلاد. هذا الخلل في بنية التقرير ومضامينه يكشف بجلاء أنه صيغ من أجل هدف أساسي يتمثل في تهديد البنية القائمة للأسرة التونسية بما هي خلية مسلمة ومحافظة في الغالب الأعم من الحالات. 

حرب على الثورة

رابعا يندرج صراع الهوية والفساد في سياق محلي ذي خصوصية نادرة إذ يتعلق بمسار ثوري انتقالي شديد الحساسية يهدد وجود الدولة والمجتمع على حد سواء. فقد نجحت الدولة العميقة في التقاط أنفاسها وفي تصدر المشهد من جديد وفي تجاوز صراعات أجنحتها وفي إلغاء أغلب المطالب الثورية بل إنها أجهدت الدولة بالمطلبية التي تزعمها "الإتحاد العام التونسي للشغل" فارضا تركيع الاقتصاد ومنع المجتمع من التقاط أنفاسه. لقد شن اتحاد الزعيم النقابي "فرحات حشاد" حربا مفتوحة على الثورة وعلى المسار الانتقالي متسلحا بأجندات سياسية ومطامع فردية بشكل عطل الدورة الاقتصادية وأصاب قطاعات كثيرة بالشلل التام. كما أن الاستحقاقات الانتخابية القريبة وخاصة منها الانتخابات الرئاسية قد ألقت بظلالها السميكة على المشهد التونسي بشكل شجع الأطراف السياسية على مراجعة حساباتها وقناعتها بما يتماشى مع مصالحها الحزبية قبل المصالحة العليا للوطن والثورة. 

إن جوهر الصراع الحقيقي في تونس هو الصراع مع شبكات الفساد وأذرعها الخفية والمعلنة وكل صراع آخر إنما يهدف إلى التغطية على هذا الصراع وتهميشه. الصراع مع شبكات الفساد في تونس هو صراع وجود وليس صراع نفوذ ولا يمكن للثورة التونسية أن تحقق أدنى أهدافها دون تصفية الإرث الثقيل وموروث المتراكم لمشاريع الفساد ونهب المال العام طول أكثر من نصف قرن هو تاريخ الوكالة الاستعمارية على بلاد أبي القاسم الشابي. لقد تحولت أذرع الفساد إلى دولة داخل الدولة بل إنها تعتبر اليوم السلطة الرسمية ومصدر كل السلطات في تونس بشكل حوّل السلطة الرسمية إلى واجهة تخفي ممارسات أذرع الفساد وتمنع محاسبتها.