قضايا وآراء

التحديث القسري.. حين يكون الشعب في واد ورئيسه في واد آخر

1300x600
على الرغم من الرفض الشعبي الواسع لتقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، التي تترأسها الحقوقية اليسارية بشرى بلحاج حميدة، إلا أن الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي أعلن في اجتماع نسوي يوم 13 آب/ أغسطس الجاري، بمناسبة الاحتفال بذكرى إقرار مجلة الأحوال الشخصية في العام 1956، التقدم للبرلمان بمشروع قانون لمراجعة المجلة، باتجاه تعديل توزيع الميراث ليقوم على المساواة في الإرث بين النساء والرجال، بدلا من التقيد بمنطوق الآيات القرآنية الكريمة، التي تنص على أن يتم توزيع الميراث بين الإخوة على قاعدة "للذكر مثل حظ الأنثيين".

رفض شعبي عارم

رغم إجراءاته العديدة لصالح النساء، إلا أن الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة وقف عند النصوص القرآنية واضحة الدلالة في توزيع أنصبة الميراث، لم يتجاوزها، لا لشيء إلا لإدراكه لحجم المعارضة الشعبية الواسعة لذلك. لكن خلفه، الرئيس الحالي قايد السبسي، المولع بتقليد بورقيبة في الكبيرة والصغيرة، حتى في اللباس ونوعية النظارة الشمسية، يريد المضي إلى الأمام باتجاه المساواة التامة، بزعمه أن ذلك هو منطوق نصوص الدستور التونسي الحالي، غير مبال برأي الناس ورفضهم.
الحبيب بورقيبة وقف عند النصوص القرآنية واضحة الدلالة في توزيع أنصبة الميراث، لم يتجاوزها، لا لشيء إلا لإدراكه لحجم المعارضة الشعبية الواسعة لذلك

فقد بينت استطلاعات رأي سابقة أن أكثر من 66 في المئة من التونسيين ضد المساواة في الإرث.. أما أحدث الاستطلاعات، وأنجزته أكبر إذاعة تونسية، هي إذاعة "موزاييك أف أم" على موقعها على الإنترنت، وهي إذاعة محسوبة على التيار الحداثي المؤيد لقايد السبسي. فقد أثبت أن أكثر من 96 في المئة من التونسيين يرفضون المساواة في الميراث، ويعتبرون ذلك اعتداء على نصوص قرآنية واضحة..

وقد شارك في التصويت عشرات الآلاف من التونسيين، ما يعبر على اتساع المعارضة الشعبية لتوجهات الرئيس وسط الرأي العام. وعلى الرغم من أن التصويت على مواقع الإنترنت لا يقدم قراءة دقيقة لمواقف الناس وتصوراتهم؛ لأنه يظل تصويتا محصورا في شريحة معينة، هي شريحة مالكي أجهزة التواصل الحديثة من كمبيوترات وهواتف ذكية، أيضا شريحة المتصلين بالإنترنت، إلا أنه مع اتساع المشاركين فيه يعطي مؤشرا واضحا على توجهات الرأي العام الرافضة بحدة لما يرغب فيه الرئيس.

تقسيم التونسيين

مما يزيد إعلان الرئيس قايد السبسي سوءا، أنه قبل الإعلان وبعده، بدا الشارع التونسي أكثر انقساما من أي فترة سابقة منذ خمس سنوات على الأقل، ما يذكر بحالة الاستقطاب الحادة التي عاشتها البلاد صيف العام 2013، وكادت تنتهي بصدام عام بين التونسيين يسيل فيه الدم، كما حصل في مصر، لولا قبول حركة النهضة الإسلامية الخروج طوعا من السلطة التي وصلتها بانتخابات شفافة، للحفاظ على وحدة البلاد وأمنها وسلامتها.
قبل الإعلان وبعده، بدا الشارع التونسي أكثر انقساما من أي فترة سابقة منذ خمس سنوات على الأقل، ما يذكر بحالة الاستقطاب الحادة التي عاشتها البلاد صيف العام 2013

فقبل إعلان الرئيس بيومين، نزل عشرات الآلاف من التونسيين للشارع تحت قيادة الأئمة وعلماء الدين، في العاصمة الاقتصادية صفاقس وفي العاصمة تونس، رافضين تقرير لجنة الحريات، ورافضين فكرة المساواة المخالفة لنصوص القرآن الكريم. وأعقب الإعلان الرئاسي مظاهرة أخرى مؤيدة لإعلان الرئيس.

وبدا في المظاهرة المؤيدة للرئيس قايد السبسي الخطاب العدواني الحاد ضد أنصار التيار المحافظ في البلاد، ما يكشف عن أن إعلان رئيس الدولة لم يقدم للتونسيين سوى مبررات جديدة للانقسامات والصراعات، في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة اقتصادية صعبة، ومن أزمة حكم وصراعات بين الرئيس ورئيس حكومته، تتخبط فيها تونس منذ أشهر، ما يفرض على الرجل الأول في الدولة أن يسعى لتقريب الشقة بين التونسيين، وأن يوحدهم من أجل مواجهة الصعوبات التي تعيشها بلادهم. لكن الرئيس اختار اتخاذ إجراءات فاقمت الانقسام المجتمعي بين حداثيين ومحافظين، ولم تعالجه.
انتهت السياسات القسرية واقعا إلى توترات اجتماعية عالية المستوى وفشل تنموي شديد، همّش معظم السكان، وركّز الثروة في شريط ساحلي ضيق.. وخلق نخبة مدينية متغربة معزولة عن عمقها الشعبي

دولة الإكراه

قامت الثورة التونسية في العام 2011 باعتبارها انتفاضة شعبية عارمة على تجربة التحديث القسري، التي قادتها دولة بورقيبة ومن بعده المخلوع زين العابدين بن علي. فقد قامت الدولة التونسية ما بعد الاستقلال على الدعاية الأيديولوجية الحداثوية المتطرفة، الحامية ظهرها بالاستبداد السياسي الغليظ، وتكميم الأفواه، ومنع نقد سياسات الدولة وقرارتها.. وانتهت تلك السياسات القسرية واقعا إلى توترات اجتماعية عالية المستوى وفشل تنموي شديد، همّش معظم السكان، وركّز الثروة في شريط ساحلي ضيق.. وخلق نخبة مدينية متغربة معزولة عن عمقها الشعبي.

على الرغم من الثورة وما ضخته من دماء جديدة في الدولة، إلا أن الدولة التونسية لم تبرأ بعد من مرضها ومن لوثة الأيديولوجيا المهيمنة، ورغبات التحديث القسري للمجتمع. وفي هذا السياق، يأتي إعلان رئيس الجمهورية الحالي مبادرته في المساواة في الميراث، رغم الرفض الشعبي العارم، ما يعني أن الثورة، وإن طهرت الدولة من الاستبداد والتفرد بالحكم، ووزعته بين البرلمان والحكومة ورئاسة الجمهورية، إلا أنها لم تنجح حتى الآن في كبح جماح الأيديولوجيا التحديثية المتطرفة.. فما زال في البلاد مسؤولون يؤمنون بحقهم في إكراه شعبهم، عبر سلطة الدولة، على اختيارات "حداثية" لا يريدها الناس.. وهكذا عدنا من جديد لنرى الشعب في وادٍ ورئيس الدولة في وادٍ آخر..
ما زال في البلاد مسؤولون يؤمنون بحقهم في إكراه شعبهم، عبر سلطة الدولة، على اختيارات "حداثية" لا يريدها الناس.. وهكذا عدنا من جديد لنرى الشعب في وادٍ ورئيس الدولة في وادٍ آخر

مجتمع منهك وغير سعيد

الارتفاع الكبير لنسب العنوسة ونسب الطلاق في تونس، وكذلك ارتفاع نسب الإقبال على المخدرات والجريمة، ليست بعيدة عن دولة الغصب والإكراه. فالإجراءات القانونية المتبعة، التي تغلب النساء على الرجال بقوة الدولة، كما يرى الكثير من الرجال التونسيين، هي المسؤول الأول عن التوتر المستمر في العائلة التونسية، التي يتصارع فيها الرجل والمرأة على السيطرة، بدلا من التكامل والتواصل والتعاون.. وهو ما يصيب أفراد الأسرة بالبؤس والتعاسة، ويجعل من الزواج، الذي جعله الله مودة ورحمة وسكنا، مجرد تجاور جسماني لا سعادة فيه، وهو ما يؤدي في المحصلة إلى التفكك الأسري، الذي ينتهي بالكثير من الأطفال إلى الجنوح والإدمان والجريمة.

ومما يلاحظ أن آخر استطلاع دولي لمستوى السعادة في العالم يعطي تونس مرتبة متأخرة جدا في مستوى السعادة في العالم. إذ حصلت تونس على المرتبة 111، بينما سبقتها جارتها ليبيا سبقا كبيرا، رغم كونها تعاني مما يشبه الحرب الأهلية وسيطرة مليشيات مسلحة على البلاد، ورغم كل ذلك احتلت ليبيا المرتبة 70 دوليا في مستوى السعادة، لتسبق تونس بـ41 نقطة كاملة، في حين جاءت المغرب القريب في المرتبة 84، والجزائر الجارة في المرتبة 85.
لماذا لا تصنع الترسانة القانونية الجيدة أناسا جيدين؟ لماذا تملك تونس ترسانة قانونية جيدة للأسرة مثلما يقولون، بينما تغرق معظم الأسر التونسية في الشعور الدائم بالتعاسة والصراعات والنكد

تفخر نخب الدولة التونسية بأسبقية البلاد في تحرير العبيد، وفي إعطاء النساء حقوقهن عبر مدونات قانونية سبقت كل الدول العربية والإسلامية. وإن المرء ليتساءل في ضوء ذلك: لماذا لا تصنع الترسانة القانونية الجيدة أناسا جيدين؟ لماذا تملك تونس ترسانة قانونية جيدة للأسرة مثلما يقولون، بينما تغرق معظم الأسر التونسية في الشعور الدائم بالتعاسة والصراعات والنكد؟ وإن التونسي ليسأل دولته التحديثية عبر الإكراه: أليست لنا ترسانة قانونية عظيمة وسبْق في تحرير المرأة.. فلماذا نحن الأقل سعادة بين جيراننا؟