قضايا وآراء

الاتفاق في غزة رهن تصورات المستقبل

1300x600
مراحل متقدمة، تلك التي بلغتها جهود دولية للتوصل إلى اتفاق ينهي أزمة قطاع غزة، ويضع حداً مؤقتاً للاشتباك العسكري القائم بين حركة حماس و"إسرائيل". ولكن كلمة "متقدمة" بحد ذاتها، تثير القلق، لما تعكسه من دلالة ضمنية على نضوج الرؤية "الإسرائيلية" لطبيعة الصلة المستقبلية بقطاع غزة، وأنماط الإشتغال السياسية والأمنية معه. ولأننا تعودنا أن لا تُقدم "إسرائيل" على حراك أو اتفاق إلا وبجعبتها خطة مفصلة، تنظم آليات تحقيق أهدافها الإستراتيجية، فنحن مطالبون بالولوج داخل العقل "الإسرائيلي"، لتحصيل قراءة مستقبلية، تفسر سبب انفتاحها على الحلول المتداولة.

وأول هذه القراءات ما يشير إلى رغبة "إسرائيلية" في لجم تعاظم قدرات المقاومة الفلسطينية، على رأسها كتائب القسام، عبر تحديد اشتراطات غير مباشرة تحد بموجبها من حفر الأنفاق الهجومية، وجهود التصنيع المحلية، إضافة إلى وقف تهريب الأسلحة النوعية. ولعل الجديد الذي تحمله مثل هكذا نوايا، أنها في حال إنفاذها ستكبل قدرة المقاومة على تطوير نفسها، وسيجعلها في حالة تجمد، دون أن تُلزم الطرف الآخر وقف استعداداته العسكرية، خاصة ما يتعلق ببناء الجدار الارضي، وتطوير قدرته على خوض حرب داخل مدن مكتظة بالسكان. ومن ناحية أخرى، سياسية، ستوفر هذه الاشتراطات الخفية مظلة قانونية شرعية - وبغطاء دولي - لاتخاذخطوات وإجراءات تنفيذية احترازية من شأنها تلبيته، وضمان عدم خرقه، دون أن تتمكن المقاومة مستقبلاً من تجاهله، أو السير عكسه، ما يعني أن ضبط الحالة العسكرية داخل قطاع غزة، ستُنظم وفق آلية دولية غير معلنة والتفافية، تستجيب لشروط "إسرائيل"، على حساب حرية حركة ومرونة المقاومة الفلسطينية.

إلى ذلك، تحيل القراءة الأولى إلى اخرى ثانية مرتبطة بها. فالنشاط الاستخباري سيتعاظم حال التوصل إلى اتفاق، وستحاول "إسرائيل" رصد وفضح أي تحرك فلسطيني ترى فيه تهديداً لها، أو يتقاطع مع مخاوفها؛ وكنتيجة، ستعمل على تحفيز وتغذية توترات مع كيانات بعينها، كالدولة المصرية، خاصة وأنها الراعي الحصري للاتفاق. هذه القراءة تستجيب لما دأبت عليه إسرائيل مع ملفات أخرى، كالحالة الإيرانية، وجهودها تحريض المجتمع الدولي، عبر تنفيذ اختراقات استخباراتية تؤكد لوجهة نظرها. وهنا يمكن استخلاص رغبة مستقبلية في تدويل الصراع مع "حماس"، كما تؤشر لنية مبيته باتجاه جر وتوريط الدولة المصرية في ملف غزة، الأمر الذي سيترتب عليه مكاسب إستراتيجية، من قبيل سلخ القطاع جغرافياً عن باقي أجزاء الوطن، وضمان عدم قيام مركزية سياسية فلسطينية مع الضفة الغربية، وبالتالي فتح الباب أمام اعتبارات جديدة، تستجيب لحقائق الوضع القائم، بعيداً عن الصيغ والقرارات الأممية التقليدية.

لا يتوقف الأمر عند ما سبق، بل يمتد نحو محاولة احتواء الممارسة السياسية لحماس، وضمان عدم تغريدها خارج الإطار المحدد لها. وما التسريبات التي تتحدث عن مشاريع إقتصادية، تُنفذ داخل الأراضي المصرية، إلا تأكيد واضح وجلي على هذه الرغبة، عبر تزويد مصر بكل أدوات الضغط اللازمة في حال لم تستجب حماس لمتطلبات العلاقة معها. الأمر الآخر الذي قد لا يبدو واضحاً للمتابع، أن الاتفاق قد يُقيد استقلالية علاقات حماس الدولية، خاصة مع إيران وقطر، لما تمثله الأولى من عامل دعم عسكري، فيما تنشط الثانية في جوانب الدعم الإنساني والإعلامي والأخلاقي. ولأن مصر مرتبطة بتحالف عربي على عداء مع هذه الدول، فمن المتوقع أن ينسحب الأمر على حركة حماس، من خلال ممارسة ضغوط ناعمة، أو مساومات خفية، لضبط علاقتها معها. فالمُخطط "الإسرائيلي" يعي هذه التوازنات العربية، ويدرك كيفية الإستفادة منها، عبر اشتراط واقع يمهد لمزيد من الانشقاقات والتعقيدات، تمكنه من ريادة الشرق الأوسط، عبر التحكم في مجرى سريان تفاصيله. وهنا، أكثر ما يُخشى، أن تصبح غزة جزء من الصدع العربي، في تكرار لمثال التجربة الكويتية، وسلوك الرئيس الراحل ياسر عرفات شبه المؤيد للعراق.

وأخيراً، لا تسلك "إسرائيل" مسلكاً إلا وتملك رؤية لكيفية الإفادة منه في تحقيق أهدافها بعيدة المدى، وما تأخر تعاطيها مع مقترحات سابقة، إلا لهدف بناء خارطة طريق متكاملة تحدد نطاق سيرها، وتستجيب لمبدأ توزيع الأدوار بين أذرعها التنفيذية. لذلك، فقضايا أسراها لدى المقاومة، وموضوعات الميناء والمطار، وأخرى فرعية، ما هي إلا أجزاء متناثرة تخدم الصورة الأشمل... فالنجاح لديها مرهون بالمسموح والمرفوض المستقبلي... فهل للمستقبل مكان في رؤيتنا لما بعد الاتفاق؟