كتاب عربي 21

كأس العالم العربي

1300x600

اليوم وقد استقر مكان تنظيم كأس العالم 2022 في دولة قطر وبعد الأداء الهزيل للمنتخبات العربية في الكأس الأخيرة لا يزال السؤال قائما عن دور الفعل الرياضي والأنشطة المرتبطة به في التأطير الجمعي للجماهير من جهة وفي تفعيل الطابع التواصلي للدولة المنظمة من جهة أخرى.

 

كما لا يزال الاستفهام قائما عن الدواعي التي حولت الاحتفال بأول كأس عالم عربي تنظيما واستضافة إلى حرب معلنة في الكواليس لمنع هذا الحدث من الالتئام ومن النجاح.

 

ما كان لمونديال الدوحة أن ينال قدرا كبيرا من الاهتمام لولا السياق الخاص الذي اندرج فيه وخاصة فيما يتعلق بأزمة الخليج وحصار قطر.


الرياضة وأساسا كرة القدم في المنظومات الاستبدادية هي جزء من مشروع الإلهاء الذي تنفق عليه الدولة أموالا طائلة من أجل صرف أنظار كثير من الجماهير عن القضايا الحقيقية للوطن وعن المطالب الاجتماعية المشروعة للطبقات المسحوقة بصورة خاصة.

 

كرة القدم كما يقول بعضهم هي "أفيون الفقراء" ومتنفس المتعطشين للانتصارات الوهمية وجرعة من مسكّن لأحلامهم وآمالهم وطموحاتهم وهي كذلك متنفس لهم يسمح بتفريغ شحنة الغضب الاجتماعي والحنق النفسي الذي لا يستطيعون التعبير عنه بشكل سويّ في المنابر والفضاءات الملائمة.

 

هذا الموقف لا يستهدف ولا يقلل من أهمية النشاط الرياضي في بناء الفرد عقليا ونفسيا وجسديا بما هو نشاط ضروري وحيوي لتوازن الجسد والعقل.

 

لكن كل الخطورة تكمن في التوظيف السياسي للنشاط الرياضي من أجل غايات وأهداف هي أبعد ما تكون عن روح الممارسة الرياضية.


فمنذ الثمانينات من القرن الماضي تحولت الرياضة وخاصة كرة القدم بمفعول العولمة وتحرر السوق إلى تجارة رابحة تدر مليارات الدولارات شهريا لا سنويا وصارت لها بورصة خاصة وشركات ممولة وتحولت النوادي الرياضية إلى شركات استثمار عملاقة.

 

بل صار لاعب كرة القدم يتقاضى راتبه الشهري بملايين الدولارات في الوقت الذي كان فيه روّاد اللعبة الأشهر عالميا ينفقون من مالهم الخاص على ممارسة اللعبة.

 

في هذا الخضم ارتبطت اللعبة بصورة الدولة والوطن بسبب ما تستقطبه من جماهير متعطشة للفوز والمتعة وصار لازما على السياسي أن يقتنص الفرصة وأن يحوّل مجرى اللعبة والترفيه لصالحة ولصالح أجنداته.


الأنظمة الاستبدادية العربية لم تخرج عن هذا النسق ولم تكتف بالبعد المادي الربحي للعبة كما تفعل الدول الأوروبية مثلا بل ركّزت كل جهودها على تحويل اللعبة إلى جزء يخدم البناء الاستبدادي ويوظفه لصالحه.

 

لكن نظام الاستبداد - بما هو نظام مؤسس على الفساد - يبقى عاجزا عن تحقيق النصر والفوز في مواجهة الأنظمة والفرق التي تربت في مناخات الحرية والانضباط والالتزام والعمل. فلا يمكن أن تنتصر الأمم التي يعشش فيها الفساد والنهب واحتقار قيمة العمل على الأمم المنضبطة التي تقدس قيمة العمل وتُجلّ المجهود الفردي وترفع من شأن صاحبه.


لكن ما الذي يميز التنظيم القطري لكأس العالم؟


لفهم خصوصية التنظيم القطري للمناسبة الرياضية الأبرز عالميا لا بد من التذكير بجملة من المعطيات المفتاحية.

 

أول هذه المعطيات هو حجم دولة قطر ومشروع نظامها السياسي ومجموع العلاقات التي تربطها بالعالم وبدول المنطقة.


قطر دولة عربية صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها نصف مليون نسمة وهي بذلك لا تطمح إلى الفوز بكأس العالم كما تطمح إلى ذلك الدول الكبرى ذات التقاليد العريقة في اللعبة والتي راكمت تجارب طويلة في إتقانها.

 

ثاني المعطيات الهامة هو أن قطر لا تنتظر عوائد مادية من تنظيم الكأس كما يطمح إليه غيرها من الدول المنظمة لأنها دولة غنية ومكتفية ماديا بل تتمتع بفائض كبير من الثروة ومن الرفاه الاجتماعي للفرد.

 

فقد نجحت الدوحة وفي فترة وجيزة من استكمال البنية التحية اللازمة لتنظيم التظاهرة الرياضية سواء من ناحية الملاعب الرياضية أو من ناحية ظروف التنظيم من نزل ومرافق ومواصلات وغيرها من الشروط الأساسية لنجاح التظاهرة.


بناء على ما تقدم فإن هدف دولة قطر من التنظيم ليس هو هدف غيرها من الدول. إذن لماذا حرصت قطر على استضافة المونديال؟ ولماذا حرص خصومها على منعها من تنظيمه وهو الملف الذي ظهر جليا للعيان بعد الحصار الأخير منذ أكثر من سنة؟ 


الجواب بسيط جدا: هدف قطر من تنظيم كأس العالم هو التنظيم نفسه أو بعبارة أدق إثبات قدرة الدولة على إنجاح تنظيم العرس الأشهر عالميا.

 

لقد استطاعت دولة قطر أن تحقق في ظرف وجيز قفزة نوعية في مجالات الإعلام والتنمية البشرية وتوزيع الثروة والتعليم وغيرها من القطاعات وهي تسعى عبر تنظيم كأس العالم إلى إثبات القدرة على التحكم رغم صغر المساحة في ترتيب المناسبة الأكثر تعقيدا عالميا.

 

هذا التحدي الذي كُلل بالنجاح في استضافة المناسبة الرياضية الأشهر هو الذي جلب على الدولة الكثير من المشاكل والمؤامرات والدسائس والمشاريع الانقلابية التي لم تخف هدفها في منع قطر من تنظيم كأس العالم كما صرّح بذلك أكثر من مسؤول خليجي رفيع.


لكن لماذا يسعى الإخوة والجيران إلى منعها من التنظيم في الوقت الذي صرح فيه أمير البلاد السابق يوم الفوز بالتنظيم بأن هذا الانجاز هو إنجاز للعرب جميعا وليس إنجازا لدولة قطر وهو ما أكده أمير الدولة الحالي عندما تسلم شارة التنظيم في روسيا مؤخرا؟ لماذا تحرص دول خليجية بعينها بعد أن عجزت عن استضافة المناسبة على منع غيرها من التنظيم؟ 


الجواب أوسع من أن تتضمنه فقرات مقال واحد لكن الثابت الأكيد هو أن عدم القدرة على النجاح يدفع الفاشلين إلى محاولة منع الآخرين من تحقيقه.

 

لا أحد يستطيع اليوم أن ينكر أن دولة قطر سواء اتفقنا معها أو اختلفنا هي دولة نوعية بامتياز عربيا ودوليا ولو لم تكن كذلك لما تكالبت عليها عصابات الحصار ومنوالات الاستبداد ولما تطاول عليها كل إعلام العار ونخبه البائسة ليلا نهارا.

 

هذا المنوال النموذجي الناجح هو الذي يدفع أنظمة القمع المحلية إلى محاربته حتى لا ينسج الآخرون على منواله كما فعلوا عندما رفضت الدوحة مشاركتهم في الانقلاب على ثورات الشعوب ونالت في سبيل ذلك ما نالت من الأذى ومن الظلم.


بناء على ما تقدم من المعطيات فإنه لا يمكن بأي حال مقارنة الهدف القطري من تنظيم كأس العالم بهدف الدول الأخرى. فالمواطن القطري لا يعاني الفقر والتهميش والاحتقار الذي يعانيه أخوه العربي في مصر مثلا أو في غيرها من الدول بل إن دخله الفردي هو من بين الأعلى عالميا لا عربيا فقط. 


قطر تتحرك اليوم في مجال ما بعد الاكتفاء وهي تطمح حسب رؤية قادتها إلى التموقع عالميا بين الكبار لأن العالم اليوم لم يعد مبنيا على مقاييس هندسية كمّية تقوم على المساحة وعدد السكان بل صار مؤسسا على مقاييس الفعل والقدرة على الفعل أي على التنظّم والقدرة على التنظيم وهذا ما نجحت فيه قطر وفشل فيه أعداء نجاح قطر.