قضايا وآراء

هل الإسلامي هو حليف بـ"القوة" لدولة المواطنة أم للحركات الإرهابية؟

1300x600
لا شك في أن أهم حدث جاءت به الثورة التونسي هو كسر التجانس "العلماني" المفروض على الحقل السياسي منذ حصول الاستقلال الصوري عن فرنسا. فقد سمحت هذه الثورة بدخول بعض الإسلاميين إلى مجال الفعل السياسي القانوني، ولكنها أيضا أنتجت إسلاما تكفيريا هدد الدولة في وجودها ذاته. وسأبدأ هذا المقال بتعريف إجرائي لمعنى "الإسلامي"، وهو تعريف قد يختلف اختلاف تضاد مع التعريفات الضمنية المتحكمة في خطابات "النخب العلمانية" المصرّة على احتكار تمثيل الحداثة، وعلى ادعاء حماية "النمط المجتمعي" في بلادنا. فهذا التعريف لا ينظر إلى الإسلاميين باعتبارهم كتلة أيديولوجية متجانسة، ولا ينظر إليهم من منطلق التعارض الماهوي والنهائي بين الإسلام والديمقراطية.. ذلك أنّ التجانس بين كل الإسلاميين هو تجانس متخيل أكثر مما هو استقرائي (شأنه في ذلك شأن التجانس بين القوى العلمانية)، كما أنّ التعارض بين الإسلام والديمقراطية هو فرضية بحثية ذات جذور استشراقية لا توجد في واقع الأحداث؛ بقدر ما توجد وتتكرس في أذهان أغلب النخب الحداثية لأسباب معرفية وإيديولوجية وبراغماتية يطول شرحها

ليس الإسلامي هو كل شخص له مرجعية دينية، تلك المرجعية المذهبية أساسا، لأنها لا تخرج عن المذهب الفقهي السائد. بل الإسلامي هو بالتحديد ذلك الشخص الذي يجعل من دالّة "الإسلام" مركز مشروعه السياسي، وذلك بتشغيل ترسانة معرفية ومخيالية دينية يواجه بها السرديات العلمانية الكبرى، ولذلك فإن الحديث العام عن "حركات إسلامية" ليس إلا ضربا من الاستعارة أو التجوّز في الكلام. فالمرجعية هي أساسا مرجعية مذهبية معدّلة، وهي تمثل المشروع السياسي للإسلامي، لا مجرد مشروع فردي، الأمر الذي يميز بينه وبين المسلم العادي أو الشخص المحافظ. وتنعكس تلك المرجعية في سلوكه أو في مواقفه وفي اختياراته السياسية، بطريقة قد تخالف بداهات "النمط المجتمعي" ومقدساته "المعلمنة". كما قد تخالف اختيارات المؤسسة الدينية الرسمية (سواء أكانت تلك المخالفة جزئية أم جذرية). ولكنّ تلك المخالفة لا تعني أن كل إسلامي يطمع بالضرورة في تغيير "النمط المجتمعي" بالقوة، أو أنه "يكفر" بأسس التعايش المدني بين الأهالي أو يريد نسفها باستعمال السلاح ضد الدولة، كما يفعل الإرهاب التكفيري، ولكنها تعني أنه يعتبر "التوافقات"، أو حتى ما تعتبره النخب العلمانية "إجماعا" على أسس "النمط المجتمعي"، ما هي إلا توافقات نخبوية وإجماع صوري؛ لا تمثل مجمل الجسد الاجتماعي وتحتا بعد الثورة التونسية إلى إعادة تفاوض جزئي.

ولا شك في أنّ الإجابة المبدئية على سؤال منزلة الإسلامي ودوره في مشروع الجمهوية الثانية، بل إن الوصول إلى توافقات كبرى بين الإسلاميين والعلمانيين (في إطار مشروع وطني جامع تُشتق منه استراتيجية شاملة لمقاومة الإرهاب، تكون انعكاسا لاختيارات مجتمعية نهائية ومبدئية)؛ هو ما سيحدد طبيعة المرحلة القادمة من تاريخ تونس ومسارات الانتقال الديمقراطي، كما سيحدد محور الاصطفاف ورهاناته القصوى عند مختلف الفاعلين الجماعيين. فهل سيكون الاصطفاف على قاعدة "المواطنة التامة" (لا المواطنة المشروطة أو الجزئية كما تريد النخب العلمانية، ولا ما قبل المواطنة كما هو موجود في البنية العميقة لأغلب الخطابات الإسلامية)؟ أم سيكون الاصطفاف والتعايش على قاعدة الأيديولوجيا والخطابات الصدامية والمخاوف المتبادلة التي تهدد بتقويض المركز وتغذية الهوامش المتطرفة يمينا ويسارا؟

لو أردنا الإجابة على السؤال السابق في إطار مسار الانتقال الديمقراطي الهش الذي تعيشه بلادنا، فإننا سنجد أنفسنا أمام خيارين كبيرين لا ثالث لهما؛ بعد دخول الإسلاميين إلى الحقل السياسي القانوني وما أحدث ذلك من خلخلة لمجمل الهندسة الاجتماعية وللفضاء العمومي: فإمّا أن نعتبر كل إسلامي (أو ملتزم دينيا) يرفض حمل السلاح ضد الدولة وينبذ العنف ويقبل بالتعايش على أساس الدستور والقوانين حليفا موضوعيا للدولة في مواجهة التكفيريين، ونعامله على أساس أنه مواطن كامل الحقوق (مثل غيره)، باحترام اختياراته الإيمانية والسلوكية ما دامت لا تتعارض مع القانون والدستور، حتى عندما لا تتماهى تلك الخيارات بالضرورة مع "نمط العيش" الذي تجب مراجعته جزئيا لجعله متامشيا مع الواقع المجتمعي، لا الواقع النفسي للنخبة "الحداثية"، وعلينا أن نسعى (إذا ما أخذنا بهذه الفرضية) إلى إعادة التفاوض سلميا على شروط التعايش من منظور انفتاحي، ومن منطلق الاحترام المتبادل والابتعاد عن منطق الاستعلاءين الإيماني والحداثي، على حد سواء.

..وإما أن نعتبر كل صاحب لحية وقميص (بل كل متدين)، وكل امرأة متحجبة أو حتى محافظة، وكل من يرفع شعار رابعة أو يدافع عن غزة (بل حتى كل من يبدأ كلامه بالبسملة ويرفض شرب الخمر أو يعارض توصيات لجنة الحريات العامة والمساوة) حليفا محتملا للإرهابيين، فنعامله حينئذ على أساس أنه خلية إرهابية نائمة أو خزان استراتيجي للإرهاب. وعلينا في هذه الفرضية الثانية أن نُفكّر (مثل هتلر) في "الحل النهائي" الذي سيخلّصنا من مئات الآلاف من "أشباه المواطنين" ممن يُجسدون الشر المطلق أو "الخارج المطلق"، كما يقول جاك دريدا، أي التخلص من أولئك الذين لا تنطبق عليهم شروط الانتماء النخبوية لـ"النمط المجتمعي التونسي" وفلسفته "اللائكية اليعقوبية" التي هي مجرد "تَونسة" مشوّهة ومأزومة لمبادئ الجمهورية الفرنسية في سياق تابع ومتخلف.

لو اعتبرنا الدستور في أي بلد هو القاعدة الأساسية المنظمة للمجتمع والمعبرة عن المشترك الوطني الذي هو محل توافق عام، فإننا سنطرح بالضرورة السؤال التالي: لماذا لم ينجح الدستور التونسي الجديد في تخفيف الاحتقان الأيديولوجي والحد من سلطة الخطابات الصدامية؟ أي لماذا لم ينجح هذا الدستور في بناء "مشروع وطني جامع" للقوى العلمانية والإسلامية، ويكون بمثابة المشترك الذي يتفق حوله مختلف الفاعلين الجماعيين في البلاد؟ لا شك عندنا في استحالة الإجابة عن هذا السؤال باعتماد التفسير بالعامل الواحد أو حتى بالعامل المحدد. فالوضع الذي تعيشه البلاد يستدعي شبكة تفسيرية كاملة، بل يستدعي التواضع المعرفي الذي يفرض تنسيب أية مقاربة مهما كانت قوّتها التفسيرية. ولذلك، فإننا نذهب إلى أنّ أحد العوامل الرئيسة في "عطالة" الدستور التونسي الجديد؛ هو إصرار النخب العلمانية على تأويله بمنطق الجمهورية الأولى لا بمنطق الثورة واستحقاقاتها. فالدستور الجديد عند هؤلاء هو مجرد أداة لتعميق الأساطير المؤسسة "للنمط المجتمعي التونسي"، وللخيارات الكبرى للجمهورية الأولى بلحظتيها الدستورية (زمن المرحوم بورقيبة) والتجمعية (زمن المخلوع). فما يريد هؤلاء تأسيسه لن يكون أبدا "جمهورية ثانية"، بل مجرد لحظة ثالثة في الجمهورية الأولى، وآية ذلك هو حرصهم على استبعاد أي إعادة تفاوض على المنطق الذي حكم الهندسة الاجتماعية منذ بناء ما يُسمّى بالدولة الوطنية، بل حنينهم الصريح حينا والضمني أحيانا أخرى لتكريس المنطق الاختزالي لمعنى الدولة المدنية وحقوق المواطنة بالمعنى الذي كان مهيمنا قبل الثورة.

ختاما، يبدو من المحال في تونس الآن وهنا؛ بناء جبهة داخلية موحّدة لمقاومة الثالوث المؤذن بذهاب الدولة (أو على الأقل المهدد بتحويلها إلى "دولة فاشلة" بالمفهوم المعروف لهذا المصطلح)، أي يبدو من المحال مقاومة ثالوث الإرهاب والتهريب والتهرب الضريبي (أو الفساد)، في ظل نخبة علمانية ما زالت مصرّة على تأويل الدستور بمنطق نخبوي بعيد كل البعد عن الواقع المجتمعي المعقد؛ وغير القابل للاختزال في "توصيات" النخب الحداثية أو في ادعاءاتها الذاتية، بل بمنطق نخبوي بعيد كل البعد عن استحقاقات، الثورة حتى في حدها الإصلاحي الأدنى. ولا شك في أنّ هذا المعطى لا يعني عدم مسؤولية النخب الإسلامية (خاصة النخب النهضوية أو القريبة منها) في ترسيخ الكثير من المخاوف المشروعة للنخب الحداثية، والتي يمكن ردها إلى حاجة الإسلاميين إلى الخروج النهائي والمبدئي من جبة الفقيه السلطاني والاعتراف باستحالة تحكيمه في إدارة الخلاف بينهم وبين العلمانيين، بل كل ما يعنيه هو حاجة النخب الحداثية إلى القيام بنقد ذاتي جذري، وهو نقد لن يكون لأية مراجعة يقوم بها الإسلاميون من معنى إلا بحصوله، بحيث لن يكون أساس الجمهورية الثانية إلا محصول هذا النقد المزدوج والتوافقات المجتمعية التي تعقبه.