قضايا وآراء

نصف قرن على ثورة الطلاب في فرنسا

1300x600

شهد مرور نصف قرن على ما سمي "ثورة الطلاب" في فرنسا (13 أيار/ مايو 1968) اهتماماً إعلاميا واسعاً، عكسته حلقات النقاش حول الذكرى والدروس المستفادة منها، وما بقي منها وما انتهى دون رجعة. أما المشاركة فجمعت بعضاً ممن شاركوا في الحدث وهو يافعين ودخلوا الآن خريف العمر، والبعض الآخر ممن سمع فقط عن "الثورة الطلابية"، وجذبته آثارها على المجتمع، والسياسة، والفكر والثقافة. أما أهمية استحضار هذه الذكرى، فتكمن في سؤال يتردد على ألسِنة الفرنسيين: إلى أين تسير بلادُهم؟ وهل في مستطاع رئيسِهم المنتخب (ماكرون) وحركته السياسية قيادةَ فرنسا نحو الأفضل؟ أم أن الحاجة ماسة إلى ثورة ثقافية عميقة من حجم ثورة أيار/ مايو 1968، تُقوِّض منظومة القيم السائدة، وتبني أخرى قادرة على صياغة عقد اجتماعي جديد؟

 

نقطة التحول القوية في مسار هذه الحركة الاحتجاجية تعود إلى حدث التحاق الأساتذة والمثقفين، واندماجهم بالطلاب، وانخراطهم معهم في التظاهر ورفع الشعارات


ربما لن يكون لهذا التطلع أي حظ من التحقق والنجاح؛ لأن "ثورة الطلاب" تحققت بفعل سياق فرنسي ودولي يسّرَ إمكانية اندلاعها ونجاحها.. والحال، أن سياق فرنسا اليوم، وسياق محيطها الدولي والإقليمي مختلفان عن أوضاع "ثورة الطلاب". بدأت "الثورة الطلابية" بحركة مطالب محدودة في جامعة "نانتير" (باريس)، أبرزها الإعلان عن التضامن مع طالب "يهودي ألماني مهجر" هو "دانيال كوهين"، تمّ إقصاؤه بشكل تعسفي من الجامعة، لكن سرعان ما امتدت إلى باقي الجامعات في العاصمة الفرنسية باريس. بيد أن نقطة التحول القوية في مسار هذه الحركة الاحتجاجية تعود إلى حدث التحاق الأساتذة والمثقفين، واندماجهم بالطلاب، وانخراطهم معهم في التظاهر ورفع الشعارات، والضغط على الحكومة ومؤسسات الدولة. وقد وصل هذا التحول ذروته، حين تمّ احتلال شوارع باريس بالكامل في 13 أيار/ مايو 1968، وشلِّ حركة الحياة فيها.

لم تكن في الواقع أحداث أيار/ مايو 1968 مجرد حركة احتجاج لجماعة من الطلاب، مدعومة من بعض الأساتذة المتعاطفين والمؤازرين لها، بل كانت في الواقع ثورة حقيقية، ذات رؤية وأهداف ومقاصد. فقد تكاتف أعضاؤها من أجل إسقاط نظام بكامله؛ مُؤسَّس على منظومة قيم، في المجتمع والسياسة والتعليم والثقافة، لم تعد فئات واسعة من المجتمع الفرنسي، وفي صدارتها مجتمع الطلاب، راضيةً عليها، ولا قابلةً العيشَ والتعايش معها. ففرنسا في ستينيات القرن الماضي، خرجت منهكة من الحرب العالمية الثانية، ومكسورة الكبرياء من حرب الجزائر، محكومة بنظام سياسي رئاسي، تتولى مؤسسة الرئاسة في نطاقه أهم وأخطر الاختصاصات. كما أن فرنسا فقدت خلال هذه الحقبة وزنها الدولي، وأصبحت قطعة في لعبة شطرنج "مشروع مارشال"، الذي رسمته وتولت تنفيذه الولايات المتحدة الأمريكية. لذلك، كانت روح "ثورة الطلاب" تروم كسر هذه الدائرة التي لفّت ببلدهم، وفتح الطريق أمام مرحلة جديدة تستعيد فرنسا من خلالها حريتها في السياسة والثقافة والفكر، وفي علاقاتها الدولية، وتتيح لأبنائها، وفي مقدمتهم الطلاب، الباب للتعبير عن طاقاتهم، وإمكانياتهم في التفكير النقدي، والاجتهاد الخلاق.

لم تكن في الواقع أحداث أيار/ مايو 1968 مجرد حركة احتجاج لجماعة من الطلاب، مدعومة من بعض الأساتذة المتعاطفين والمؤازرين لها، بل كانت في الواقع ثورة حقيقية، ذات رؤية وأهداف ومقاصد

تكمن الميزة الثانية في حركة أيار/ مايو 1968، وهذا ما أضفى عليها نعتَ الثورة، لكونها كانت مؤطرة بحركة ثقافية وفكرية بارزة، أمدّت أنصارها بالأرضية الفكرية المطلوبة، وأعطت لشعاراتها المعاني الثقافية اللازمة. لنستحضر مع القارئ الكريم الزخم الفكري الذي عرفته فرنسا خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والتدافع بين نظريات واتجاهات كان لها التأثير البالغ على تشكل العقل الغربي عموما. تكفي الإشارة إلى ثلاثة عناوين كان لها الأثر البارز على الفكر والثقافة، هي: كتاب "الكلمات والأشياء" لميشيل فوكو، و"كتابات"، للمحلل النفساني "جون لاكان"، و"الكتابة والاختلاف" لجاك دريدا"، قبل أن تعقبها كتابات "هربت ماركيوز.

يربط خيط ناظم بين كل هذه الكتابات التي شكلت الوعاء الفكري والثقافي لثورة الطلاب، يتعلق تحديدا بنقد العلاقة السائدة بين "المعرفة والسلطة" في المجتمع الفرنسي، والمجتمعات الغربية عموما. كما تنطوي على دعوة لتفكيك هذه العلاقة وإعادة بنائها بشكل يعيد للمعرفة حريتها واستقلاليتها، وينزع عنها الطابع التحكمي للسلطة ومؤسساتها وأجهزتها. فحين تكون السلطة متغيرا مستقلا، والمعرفة متغيرا تابعا لها، يفقد الناس حريتهم، ويعجزون عن التعبير عن ذواتهم، ويغدو عصيا عليهم المشاركة الفعالة في تقرير مصيرهم.. ولعل هذا ما ألمّ بالمجتمع الفرنسي، ودفع طليعة الطلاب إلى الانتفاض والتظاهر والثورة.

 

إذا كان هناك من درس بالنسبة للثورة الطلابية في فرنسا، فهو أنها كانت ثورة ثقافية وفكرية واجتماعية، ولعل هذا ما يسر لها فرص النجاح والتأثير


لم تكن "ثورة الطلاب" بدون كلفة بشرية ومادية، بل على العكس، قدم أنصارها ثمنا من أرواحهم، غير أنها فتحت الطريق أمام التغيير في السياسة والمجتمع والثقافة والفكر. فسياسيا سقط نظام "الجنرال ديغول" باستقالته عام 1969، في أعقاب استفتاء رفض المصوتون فيه إصلاحاته.. وبتحقق هذه الاستقالة دشنت فرنسا باب الإصلاحات السياسية اللاحقة، التي ستقطع مع التجربة الديغولية. كما أعقبتها إصلاحات في المنظومة القانونية والمؤسساتية، نشير إلى أهمها؛ الإصلاح الذي أدخل على القضاء الدستوري، الذي ظل مهيمنا عليه من قبل رئيس الدولة، ومؤتمرا بأوامره.. كما حظيت المسألة الاجتماعية، والاختلالات المرافقة لها بأهمية في السياسات العمومية اللاحقة. والحقيقة أن الثورة الطلابية لم تبق آثارها حبيسة فرنسا، بل تعدتها إلى بلدان أخرى، حيث أثرت بشكل عام في ظهور حركات اليسار في العالم، ومنها حركات اليسار في العالم العربي.

إذا كان هناك من درس بالنسبة للثورة الطلابية في فرنسا، فهو أنها كانت ثورة ثقافية وفكرية واجتماعية، ولعل هذا ما يسر لها فرص النجاح والتأثير. لذلك، تحتاج الثورات السياسية كي تنجح وتُفضي إلى نتائج أن تكون مؤسسة على وعاء ثقافي، ينظم أهدافها، ويوضح رؤيتها، ويرشد أدواتها ووسائها.. ودون ذلك ترتد على أصحابها بسبب غياب هذا الوعاء، كما حصل لما سمي ّ ثورات الربيع العربيّ.