قضايا وآراء

بلديات تونس تضع على المحك نظامها السياسي الجديد

1300x600
يوم الأحد القادم ينتخب التونسيون حكامهم المحليين.. وينزلون الفصل السابع من دستورهم، دستور الثورة، الناجية الوحيدة من بين ثورات الربيع العربي، لأرض الواقع، ليكون التونسيون أول الشعوب العربية التي تنجح في توزيع السلطة على أوسع نطاق ممكن، وتشرك المواطن في حكم نفسه بنفسه، من خلال انتخاب حكام محليين بصلاحيات قانونية واسعة تمكّنهم من إدارة شأنهم المحلي دون تدخل كبير من المركز..

ويأتي هذا الإنجاز التاريخي الذي تحققه الثورة التونسية، من خلال أجهزة الدولة، بعد صراعات سياسية كثيرة، كادت تعصف بالانتخابات، من عمليات تأجيل متتابعة، ومحاولات هروب من الاستحقاق الانتخابي، ومساعي لا تكل للنكوص عن مقتضيات الدستور في توزيع السلطة بين المركز والأطراف.

مسار متعرج نحو الهدف

تأخرت الانتخابات البلدية والمحلية في تونس كثيرا. فبعد سبعة أعوام وأشهر من ثورتها، تقدم البلاد على تنظيم هذه الانتخابات المهمة، مضيعة سنوات غالية كان يمكن فيها تحقيق الكثير. ويرجع تأجيل الانتخابات كل هذه المدة إلى طبيعة النظام الذي قامت عليه الثورة، وما زالت بقاياه مؤثرة في الرأي العام التونسي. كما أن للانقسامات السياسية ومخاوف الأحزاب بعضها من بعض دورا كبيرا في تأجيل المواعيد الانتخابية، خشية أن يستفرد طرف سياسي دون آخر بالهيمنة على البلديات والحكم المحلي.

تلك الانقسامات جعلت الانتخابات تتأجل مرة بعد مرة. ورغم تحديد الهيئة العليا المستقلة للانتخابات مواعيد للعملية الانتخابية أكثر من مرة، إلا أن العديد من الأحزاب نجحت في تنظيم ضغط سياسي وإعلامي عال، مكّنها في نهاية المطاف من تأجيل تلك المواعيد مرة بعد أخرى، الأمر الذي جعل هيئة الانتخابات تدخل في صراعات ومماحكات حادة مع الأحزاب. وخرج مسؤولون في الهيئة في تصريحات إعلامية حادة يقولون إن مسؤولية الهيئة أن تنظم انتخابات للشعب التونسي وليس للأحزاب، وأنه لا يمكن لها أن تنتظر إلى ما لا نهاية له حتى تكون كل الأحزاب جاهزة للموعد الانتخابي.

بعد التغلب على التأجيل المتكرر، أرادت بعض الأحزاب أن تتم الانتخابات في ضوء قانون البلديات الذي وضع عام 1975، وهو قانون يفرغ الحكم المحلي من أي صلاحيات حقيقية، ويعطي الصلاحيات الرئيسية في إدارة الحكم المحلي للولاة الذين يعينهم رئيس الجمهورية.. وبعد جدالات وصراعات حادة في البرلمان بين مختلف الكتل، أمكن في الأخير، وقبيل إجراء الانتخابات بنحو أسبوعين فقط، التوصل إلى مجلة قانونية جديدة منسجمة مع روح دستور الثورة التونسية.. وكان لكتلة حركة النهضة في البرلمان، وهي الكتلة الأكبر بين كتل مجلس الشعب، دور حاسم في تجاوز الصعوبات والمناورات، وإقرار القانون الجديد المنظم للحكم المحلي.

النهضة فازت قبل الانتخابات

حركة النهضة هي الحزب الأبرز، ونكاد نقول الوحيد، الذي دافع باستماتة، منذ سنوات، عن إجراء الانتخابات المحلية، وعلى أن تجري الانتخابات في ضوء قوانين منسجمة مع دستور الثورة، روحا ونصا، وأن يكون للمنتخبين للحكم المحلي صلاحيات واسعة في إدارة شؤون مناطقهم، بعيدا عن هيمنة المركز وتدخلاته في التصرف في الميزانيات المرصودة وتحديد الأولويات.

وقادت النهضة الساحة السياسية التونسية ونظام الحكم في الأعوام 2012 و2013 وحتى مطلع العام 2014. وكانت القوة الأبرز في صياغة دستور ما بعد الثورة التونسية. وجاء هذا الدستور ليعيد صياغة نظام الحكم، من نظام فردي استبدادي، إلى نظام تتوزع فيه السلطة بين العاصمة والأطراف، وتتوزع فيه داخل العاصمة ذاتها بين قصر الرئاسة في قرطاج، وقصر الحكومة في القصبة، وقصر باردو، حيث مقر مجلس النواب، الحاكم الحقيقي دستوريا للبلاد.

حكم تونس منذ استقلالها نظام رئاسي متطرف، يمركز السلطة في يد شخص واحد، يعطيه كل الصلاحيات في كل المجالات وفي مختلف مناطق البلاد. ولئن كان الأمر متفهما بعيد استقلال البلاد عن المستعمر الفرنسي، بالنظر لدرجة وعي الناس، وبالنظر لكاريزما الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، الذي كان دكتاتوريا لكنه كان يتعامل مع التونسيين بمنطق أب الأسرة الباطش، وإن كان الناس يضيقون ببطشه، فإن منطق الأبوة يحفظ شيئا من الود والهيبة.

.. بعد تولي الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي السلطة في انقلاب أبيض عن بورقيبة سنة 1987، زادت مركزية السلطة وترسخت أكثر، وصار رئيس الدولة حاكما مطلقا لا يقيده أي عرف أو قانون، وكان الدستور حروفا لا يقيم لها الحاكم أي وزن. وعرف التونسيون مع المخلوع البطش في أجلى صوره، من خلال عشرات آلاف المعتقلين السياسيين، ومن خلال التعذيب الممنهج الذي أزهق أرواح العشرات في السجون والمعتقلات، ومن خلال إحصاء أنفاس الناس. وقد انتهى كل ذلك بثورة أنهت الحكم الفردي العضوض.

وحين حكمت النهضة تونس، حرصت على أن لا تغادر السلطة إلا بعد إقرار دستور يوزع السلطة في المركز ذاته وبين المركز والأطراف.. ولذلك، فإن النهضة تعتبر نفسها فائزة في هذه الانتخابات حتى قبل وقوعها، إذ تمضي الأمور اليوم وفق رؤيتها لتونس تعددية بعيدة عن منطق حكم الفرد أو سيطرة المركز.

أخطار تهدد المسار

نظريا تمضي الأمور حتى الآن على ما يرام.. فالانتخابات ستجري يوم الأحد القادم، وهي تتم وفق مجلة قانونية منسجمة مع روح الثورة ودستورها.. إلا أن للواقع صعوباته الكثيرة وتحدياته وأخطاره التي تواجه المسار وتهدده، ما قد يجعل حسابات الحقل بعيدة عن حسابات البيدر.

أبرز التهديدات التي تواجه المسار الديمقراطي التونسي هي الخشية من نسبة مشاركة شعبية متدنية في العملية الانتخابية يوم الأحد القادم. فقد جرت الحملة الانتخابية في أجواء توتر سياسي، بسبب الإضرابات التي شنتها المركزية النقابية للاتحاد العام التونسي للشغل في قطاع يمس التونسيين جميعا هو قطاع التعليم الثانوي، حيث لكل عائلة طفل أو أكثر في المعاهد الثانوية. وقد خلقت تلك الإضرابات قلقا واسعا في الشارع التونسي، ما صرف اهتمام الناس عن الانتخابات إلى قضايا أخرى.

كما أن قرب شهر رمضان والارتفاع الكبير في الأسعار وتراجع الدينار، كلها أمور تجعل التونسيين منشغلين بهمّ المعاش عن هم السياسة والانتخابات.

أكثر من ذلك، فإن مشاركة العسكريين والأمنيين في العملية الانتخابية يوم الأحد الماضي؛ قد أعطت مؤشرات لا تشجع كثيرا. إذ اقتصرت نسبة المشاركين في العملية الانتخابية على نحو 12 في المئة فقط، ما يشعل ضوءا أحمر في وجه السياسيين والأحزاب والمرشحين المستقلين.

لكن مراقبين يعللون النسبة المحدودة لمشاركة الأمنيين والعسكريين بأن هذه هي المرة الأولى التي يشارك في أعضاء السلكين في الانتخابات في تونس منذ استقلالها، ما يعني أن لا تقاليد للأمنيين والعسكريين في الانتخابات. كما يرى هؤلاء أن نسبة المشاركة المحدودة هي صفعة موجهة بشكل خاص لوجه الأحزاب التي أرادت تسييس الأمنيين والعسكريين بإشراكهم في العملية السياسية، في وقت هم في أمسّ الحاجة إلى أن يكونوا عناصر ضمن جيش جمهوري وأمن جمهوري، يهتم بإنجاز مهماته الأمنية والقتالية دفاعا عن حدود الوطن، مهما كان الحزب الذي يحكم البلاد.

أمر آخر يخشاه المتابعون، أن تفرز الانتخابات فسيفساء سياسية تجعل مجالس البلديات منابر للصراع بين الكتل والأحزاب، أكثر مما هي مؤسسات للعمل والإنجاز، الذي تحتاجه تونس أمس الحاجة. وهم يأملون أن تقود عبقرية الشعب إلى مجالس تعددية تسمح بمراقبة من يحكم، وتحجزه عن الفساد، دون أن تعطل المرفق الوطني، وتمنع الفائز من الحكم وإدارة الشأن العام.

هذه الصعوبات وتلك، على أهميتها، ليست بالخطورة التي تنال من مسار التحول الديمقراطي في تونس.. فقد اعتاد التونسيون خلال سنوات ما بعد ثورتهم المجيدة على الاقتراب من حافة الهاوية، دون الوقوع فيها، ودون التقهقر في السير قدما بمسارهم نحو اكتماله في نظام ديمقراطي راسخ البنيان.