كتاب عربي 21

المجلس الوطني الفلسطيني.. ترتيب على أساس الانقسام!

1300x600
"ترتيب البيت الفلسطيني" واحدة من المصطلحات الخطابية الكثيرة التي أبدعها الفلسطينيون، بعضها يصيب بالملل، ويحيل إلى اللامعنى.. منها هذا المصطلح، الذي أخذ يصعد ثم يتوارى. وهكذا، منذ تأسيس السلطة الفلسطينية، فقد عادت منظمة التحرير من الخارج في صورة السلطة الفلسطينية، واصطدمت بحقيقة مفادها أن قوّة أساسية وعميقة وواسعة الجماهيرية والفاعلية، موجودة داخل الأرض المحتلة، في مناطق السلطة الفلسطينية، ولم تكن يوما جزءا من منظمة التحرير.

على كل حال، لم تكن هذه الحقيقة جديدة على حركة فتح، القوّة المهيمنة فعلا، والمتنفذة حقيقة، والقائدة متفردة، لمنظمة التحرير الفلسطينية، فقد عجزت فتح عن احتواء حماس بالطريقة التي احتوت فيها فصائل منظمة التحرير، وقررت حماس طوال الانتفاضة الأولى أن تناضل من خارج إطار القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، واشترطت قواعد جديدة لانضمامها للمنظمة.. هذه القواعد تأخذ بعين الاعتبار الأوزان الحقيقية للفصائل الفلسطينية، مما يمسّ بهيمنة فتح على المنظمة، واحتكارها للقرار الفلسطيني ولصياغة مفهوم المشروع الوطني الفلسطيني.

لكن وبعد قيام السلطة، وبالإضافة لعقدة التمثيل التي تحكّمت بفتح تفكيرا وسلوكا طوال تاريخها، وأدّت بها للدخول في معارك وصراعات إقليمية للحفاظ على مكانتها التمثيلية المتفردة، ثم الاندفاع نحو سياسات تتعارض مع منطلقات فتح نفسها، بيد أن مسألة التمثيل والقرار والقيادة كانت دائما لدى فتح متقدمة على أولويات المنطلقات والمبادئ والقيم العليا للنضال الفلسطيني. فبالإضافة إلى ذلك، اصطدمت فتح، بعد قيام السلطة، ومن خلال السلطة، بقوّة لم تزل تقاوم الاحتلال بعنفوان، وبدت المسألة مركّبة؛ من أنّ هذه القوّة لا تقرّ لفتح باحتكارها تمثيل الفلسطينيين، وهي - أي حماس - قوّة جدّية وقادرة وعصية في مزاحمتها لفتح، بخلاف ما كان عليه حال فصائل المنظمة. ثم إن ممارسة هذه القوّة قد تعصف بمشروع فتح الذي هو السلطة الفلسطينية، والتي تصرفت بشكل دولاتي مستدعى من السلطويات العربية!

هذا الاصطدام فَتَحَ الحديث على مسألة "ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي"، فحماس تمتلك شرعية كفاحية، وهي تدعو، وبالإضافة للاحتكام لهذه الشرعية، إلى الاحتكام إلى أدوات قياسية تمنح الاعتبار للأوزان والأحجام، بحيث يكون التمثيل مستحقّا، لا مدّعى ولا مستندا لاعتبارات تاريخية منتهية. إلا أن عقدة التمثيل، ونزعة الهيمنة والاحتكار، والتصورات العدوانية التاريخية التي حملتها فتح تجاه حماس، حالت دون أن تخطو فتح أي خطوة تجاه الحقائق التي تجسّدت بوجود حماس.

على العكس، جعلت فتح السلطة عقدة في وجه حماس، فالسلطة حقيقة واقعة بالاستناد إلى الشرعية الكفاحية لمنظمة التحرير لا بالاستناد إلى الاستفتاء الشعبي العام، ثم ولأن حماس موجودة داخل الأراضي التي تحكمها السلطة؛ مضطرة للتعامل مع هيكل دولاتي لا تقرّ حماس بالأسس السياسية التي قام عليها، فصارت حماس إمّا أن تظل خرج السلطة، وبالتالي ملاحقة ومتهمة، كما كان الحال منذ قيام السلطة وحتى ما بعد دخول الانتفاضة الثانية، أو أن تدخل السلطة. فلما قرّرت دخولها، قرّرت فتح في المقابل تكبيلها وإفشالها. فالسلطة هي فتح، فكيف تديرها حماس؟! باختصار هذا سبب الانقسام، أي السلطة.

هذه السلطة انطوت على جانب من الشرعية الكفاحية، باعتبار أنها مشروع منظمة التحرير وحركة فتح، وباعتبار أنّها مجرد مرحلة مؤقتة تعد بدولة على حدود ما احتلّ من فلسطين عام 67. وطوال المرحلة الماضية، حلّت السلطة فعليّا مكان منظمة التحرير، وتراجع بذلك الطابع التمثيلي للمنظمة بتقدّم السلطة عليها، والتي لا تمتد سلطتها إلى خارج الأرض المحتلة. ثم مع فشل مشروع التسوية وتحوّل السلطة إلى هدف بذاته تُعنى به نخبته السياسية والاقتصادية والأمنية المستفيدة فحسب، بمعنى تجرّد السلطة من بعدها التحرري بسبب فشل مشروع التسوية، أخذت الشرعية الكفاحية في التآكل، مع انعدام كامل للشرعية التمثيلية المحتكمة لأدوات قياسية محترمة.

فلنتذكر مثلا أن قيادة السلطة أحيت دائرة العلاقات الدولية في منظمة التحرير فقط، بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية وتشكيلها للحكومة واستلامها وزارة الخارجية، استُخدِمت منظمة التحرير في هذه الحالة لعرقلة الحكومة المنتخبة، وهكذا ظلت منظمة التحرير تستدعى لتجديد الشرعية، أو لمنح الشرعية لسياسات القيادة المتنفذة، أو تستخدم أداة في الخصومة السياسية مع حماس.

الآن، والحال هذه، وبعد أن وصل مشروع التسوية لنهايته الحتمية مع خطة ترامب، وإخراج القدس من المفاوضات بإعلانه لها عاصمة لـ"إسرائيل"، وعدم ذهاب القيادة الحالية للسلطة لإدارة مقاومة شعبية واسعة وفاعلة، ولا لمراجعة مشروعها الذي فشل بإقرارها هي، ولا للتراجع عن هذا المشروع، ولا للنظر في سياسات جادّة وفاعلة لمواجهة المشاريع التصفوية الجارية، وطالما أن فتح تحولت إلى حزب للسلطة، وأن الذهاب باتجاه سياسات جديدة، أو الدفع بالجماهير مجددا لمواجهة الاحتلال من شأنه يهدد مشروع السلطة الذي صار هدفا في ذاته، وطالما أن نزعة الاحتكار وهاجس التمثيل ظل مهيمنا على فتح، فإنّ النخبة القائدة للسلطة والمستفيدة منها لم يكن أمامها إلا استدعاء منظمة التحرير مجددا لترميم الشرعيات المتآكلة، في إطار من تصعيد خطابي ضد خطة ترامب؛ لا يستند في أحسن حالاته إلا للدبلوماسية الرافضة، لا للجماهير ولا للمقاومة الشعبية الواسعة.

وطالما أن الأمر كذلك، فقد انعقد المجلس الوطني في ظرف انقسامي صارخ، مع تراجع قيادة فتح عن مسار المصالحة، ومن جهة المكان كان مشكلا كون مدينة رام الله خاضعة للاحتلال المباشر، هذا بالإضافة لكل الاستشكالات التي طرحتها فصائل أخرى كالجهاد الإسلامي أو الجبهة الشعبية التي قاطعت هي والجهاد المجلس، فضلا عن مقاطعة أو ملاحظات العديد من القوى والشخصيات من فتح ومن غيرها، وبالتالي كان الهدف من هذا المجلس استخدامه لتفصيل السياسات والقرارات و"البيت الفلسطيني" على مقاس النخبة القائدة.

في ظلّ حالة كهذه، ومع الامتناع عن تنفيذ التفاهمات والاتفاقات التي أخذت تُوقّع باستمرار منذ العام 2005 وحتى اليوم، بما في ذلك الاتفاقات المتعلقة بمنظمة التحرير، ومع عدم المراجعة الجادة والعملية لمسار التسوية وسياسات السلطة، ومع التراجع عن مسار المصالحة، من العبث القول إنّ المشاركة كانت أجدى من المقاطعة.