قضايا وآراء

مصطلحات تصيب بالغثيان: "الجيش المخطوف "

1300x600

في عام 2000، أثناء سيري مع بعض الزملاء بمنطقة العباسية عائدين من زيارة أحد الأصدقاء، وكنت لا أزال ضابطا عاملا بما يسمى الجيش المصري، قلت فجأة - لا أعلم دافعا لحظيا محددا لذلك حتى الآن - لماذا لا يكتب الناس على الحوائط يسقط الاستعمار؟

أتذكر هذا الحدث من شدة ردة فعل اثنين ممن كانوا معي، وكان أحدهما ضابطا طبيبا، ولم تكن فقط اتهامات بالخيانة؛ بل تجاوزت ذلك إلى اتهامات بالغباء والرغبة في تدمير مصر. والحقيقة أنني كنت مندهشا من حدة ردة الفعل، ولم أعلق على ما قيل لي حيث كون الرد في حالات التباين الشديد في وجهات النظر ليس له معنى. ردة الفعل هذا قد تكون مفهومة حينها؛ حيث لا زالت الكثير من الحقائق تختفي خلف الكذب الذي كان ينهال على رؤوسنا من كل مؤسسات الدولة ليل نهار عن قيمة الجيش المصري وعظمته.

وفي نفس العام، في دورة تدريبة لقادة السرايا، وفي إحدى المحاضرات، وبحضور مدير المعهد، تداخلت معه أثناء حديثه، وذكرت له أننا الولاية الـ52 الأمريكية ولا أتذكر ردة فعله، إلا أنني لا أذكر عقابا أو ما شابه ذلك.

ما أريده من تلك المقدمة الذاتية ليس إعلانا عن تفرد بمعرفة هذه المؤسسة التي دمرت مصر، لأن ذلك قد يكون معلوما بالضرورة للكثير ممن كانوا داخل الجيش وخرجوا منه بقرار منهم، وبالتالي هذا الاستنتاج لا يعتبر شيئا خارقا للعادة؛ بل أراه أمرا منطقيا لا يحتاج عناء لإثباته، إلا أن الواضح أن الأمر ليس كذلك.. ليست لمشكلة في الحقيقة ذاتها، ولكن لأزمة ما في قطاعات في المجتمع، تحاول فرض أفكار مغلوطة مدمرة وسط الشعب، وتحاول لسبب مجهول؛ الحفاظ على الصورة الذهنية لما تسمى مؤسسة الجيش في مصر.

 

يستمر البعض في نسج المصطلحات، بل والقيام بأفعال تلغي كل هذا التراكم، وتحاول العودة بنا إلى المربع رقم صفر في نضالنا الذي بدأ توا لتحرير مصر

فبعد انقلاب 2013، وفيضانات الدم التي أنتجتها البنادق والمدافع، كان أحد أكثر الهتافات استفزازا "الجيش المصري بتاعنا والسيسي مش تبعنا". حسنا... ربما كان الهدف استمالة البعض من داخل تلك المؤسسة لكبت الرصاص داخل البنادق، مع أن أي متابع لحال مصر يدرك تماما أن الهتاف الصحيح الذي ينبغي أن تطلقه الحناجر "يسقط الاستعمار"، مع الإدراك الكامل أننا لا نمتلك جيشا منذ زمن طويل.

وبعد مرور ما يقرب من خمسة أعوام على الانقلاب الذي عايشناه بأنفسنا، وإدراكنا لكل التوازنات في المنطقة، وطوفان من المعلومات المؤلمة عن تلك المؤسسة، يستمر البعض في نسج المصطلحات، بل والقيام بأفعال تلغي كل هذا التراكم، وتحاول العودة بنا إلى المربع رقم صفر في نضالنا الذي بدأ توا لتحرير مصر.

أمران رئيسيان أرى أنهما في نفس القوة والتأثير خرجا علينا في الأيام القليلة الماضية، لا ينبغي أن نأخذهما بعين محايدة، ولا ينبغي أن نفصل بينهما:

 

قرر من أعلنوا دعم عنان أن ما يسمى الجيش هو صاحب الحق في حكم مصر، بل أصبح الجيش هو ممثل لكل القوى الشعبية، وهو الصوت الأوحد، وعلينا الاقتناع والإيمان بذلك


الأمر الأول: قصة سامي عنان

كنت أود عدم الحديث عن هذا الموضوع لولا الموضوع الثاني الذي يظهره عنوان المقال. فبعد ظهور سامي عنان على الساحة، بدأت قوى ثورية (ربما هذا مصطلح خاطئ إلا أن الواقع يفرض علينا ألا نغير في أسماء أطلقها أصحابها على أنفسهم) في التهافت على سامي عنان كمرشح رئاسي، ولا تفسير لذلك إلا الرغبة في مسح ذاكرة الملايين، وربما عشرات الملايين من الشعب المصري، فبهذا الإعلان قرر أصحابه أن ما يسمى الجيش هو صاحب الحق في حكم مصر، بل أصبح الجيش هو ممثل لكل القوى الشعبية، وهو الصوت الأوحد، وعلينا الاقتناع والإيمان بذلك.

وأيضا قرروا أن ننسى ليس فقط السنوات الأربع الماضية، بل ننسى كل تاريخنا منذ مئتي عام من الإفقار والإذلال والقهر، هذا التاريخ الذي بدأ في الظهور رويدا رويدا.. وقرروا أيضا أن علينا أن نقبل الاحتلال ونرضى برجاله، وأن هذا الشعب لا ينبغي أن يناضل في سبيل حريته، أو ربما يريدون القول أن هذا الشعب لا يستحق حياة كريمة أو أنه غير قادر على المقاومة.

والحقيقة أن كل هذا خطأ لا يغتفر، فالشعب المصري (قطعا أتحدث عن كتلته الفاعلة كما الحال في كل الشعوب) ناضل نضال الأبطال طوال تاريخه الحديث من أجل التحرر، إلا أن هناك دائما قناة اتصال بين الطبقة الحاكمة وبين النخب الحقيقية أو المصنعة؛ تتحد على إعادته للمربع رقم صفر، وهذا تاريخ طويل ليس هذا مجاله.

وحتى يمكن تمرير هذا الفعل "الثوري" الفاضح، هناك ضرورة لوجود الغطاء الأخلاقي (سواء لخداع الجماهير أو لتقليل العبء النفسي)، وكان هذا الغطاء هو قضية المختطفين من النظام داخل السجون. والحقيقة الكونية في مصر وغيرها أن المختطفين لا يخرجون من السجون إلا بثورة تخرجهم عنوة من السجون، أما تلك المحاولات اللطيفة "للحلحلة" فهي دائما ما تبقي غالب المعتقلين في سجونهم، ولكنها قطعا تعيد المياه للقنوات المفتوحة وتعيد بناء الشبكات التي قطعت وتفتح الأبواب التي أغلقت. ويعتمد أصحاب هذا الغطاء الأخلاقي على الزمن – كالعادة – حتى ينسى الجميع كل شيء، أو ربما يعتمدون على عدم الحديث عن وضع المعتقلين بعد "الحلحلة". ومن المعروف أن ما لا تتحدث عنه لا تذكره الجماهير، وبالتالي يصبح غير موجود.

 

فالجيش ليس مخطوفا، ولكنه كمؤسسة يحمل خللا جينيا بنيويا لا يمكن التعامل معه بهذه السطحية المبهرة


الموضوع الثاني: هو انتشار مصطلح "الجيش المخطوف"، وهو من أحد أسوأ وأردأ المصطلحات التي ظهرت في الفترة الأخيرة. فمصطلح الجيش المخطوف يشبه تماما في بنائه وأهدافه الذهن المخطوف الذي ظهر بعد انقلاب تموز/ يوليو، فكلاهما يقلبان الحقائق تماما. فالجيش ليس مخطوفا، ولكنه كمؤسسة يحمل خللا جينيا بنيويا لا يمكن التعامل معه بهذه السطحية المبهرة. فبعد كل أحداث السنوات الأربع الماضية؛ لا زال البعض يحاول الحفاظ على الصورة الذهنية القديمة لتلك المؤسسة التي تدمرت بدرجات متفاوتة داخل العقل الجمعي للشعب المصري.

ربما علينا إعادة كتابة التاريخ بالمصطلحات المبتكرة الجديدة، فبدلا من أن نقول: "مصر كانت تحت الاحتلال البريطاني"، نقول: "مصر كانت تحت الاختطاف البريطاني". إن التلاعب بالمصطلحات خطير للغاية؛ لأنه لا يشوه فقط الحقيقة؛ ولكنه يشوه العقول ويدمر التاريخ والحاضر والمستقبل. 

 

مصر هي التي تعاني من أزمة عميقة بكل نظامها الاجتماعي والسياسي، وكل البناء أصبح مشوها للغاية، واستمرار العبث بالحقائق لن يحل الأزمة وحتى لا يمكنه تأجيلها

أكاد أرى سامي عنان بين طيات هذا المصطلح، ولا يمكنني الفصل - زمنيا على الأقل - بين الاندفاع الحاد ناحية سامي عنان (ومن قبله شفيق)، وبين انتشار هذا المصطلح الرديء، وأدعو الجميع إلى التوقف عنه احتراما لعقولنا واحتراما لنضال الشعب المصري الممتد ولنضاله القادم من أجل العدالة.

إن مصر هي التي تعاني من أزمة عميقة بكل نظامها الاجتماعي والسياسي، وكل البناء أصبح مشوها للغاية، واستمرار العبث بالحقائق لن يحل الأزمة وحتى لا يمكنه تأجيلها؛ لأنها أزمة حاضرة عميقة تعدت مرحلة الإنكار أو التغافل، وتحتاج لوضوح شديد في إعلان الحقائق بعيدا عن فطنة السياسيين الحكماء وفراسة المدركين القدامى لبواطن الأمور.