قضايا وآراء

التجريف الإعلامي ومجالس العار

1300x600

ذات يوم في العام 1997، صرخت في وجه نقيب الصحفيين وقتها (مكرم محمد أحمد): هل أنت نقيب شرطة أم نقيب صحفيين؟ ردا على تبنيه وجهة نظر وزارة الداخلية ضد جريدة الشعب التي كنت أعمل فيها، والتي وجهت اتهامات موثقة بالفساد والتربح لوزير الداخلية ونجليه. وكان المفترض أن يدافع النقيب عن الصحيفة وصحفييها في مواجهة هجمة وزارة الداخلية، لكنه فعل العكس، فاستوجب ذاك الرد.

هذا الرجل الثمانيني الذي كان بوقا لنظام مبارك، كما هو بوق لنظام السيسي، والذي طردته ثورة يناير شر طرده من مكتبه بنقابة الصحفيين، وظل متواريا خجلا لعامين بعد الثورة، هو ذاته الذي يتولى حاليا موقع الرجل الأول على رأس المنظومة الإعلامية المصرية (رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام). ولأنه أدمن خدمة النظم العسكرية القمعية، فقد جند نفسه وإمكانياته وخبراته للدفاع عن نظام السيسي، وملاحقة الصحفيين والإعلاميين الذين يلزمه الدستور والقانون بالدفاع عنهم. وكانت أحدث جولاته في ملاحقة الصحفيين؛ هو تصريحه قبل ثلاثة أيام بمساءلة أي صحفي يكتب نقدا على صفحته على فيسبوك، باعتبار صفحات فيسبوك وتويتر وسائل نشر متاحة للجميع!!

ملاحقة الصحفيين عما يكتبونه في صفحاتهم الخاصة على فيسبوك وتويتر؛ هي خطوة جديدة على طريق خنق ما تبقى من حرية التعبير في مصر. وهنا نتذكر أن سلطة السيسي حجبت أكثر من 466 موقعا الكترونيا حتى الآن، (تقرير المرصد العربي لحرية الإعلام عن العام 2017)، ولم تكتف بمجرد الحجب، بل إنها عمدت لمداهمة مقرات العديد من المواقع الصحفية الالكترونية، وصادرت أجهزتها، وفرضت الحراسة عليها، بل ضمتها ضمن ما تصفه بالكيانات الإرهابية، بعد أن فشلت في مواجهة هذه المواقع عبر كتائبها الالكترونية، والتي بفشلها فضحت تصريحات السيسي الذي قال ذات مرة: "أنا ممكن بكتيبتين أدخل على النت وأعملها دائرة مقفولة".

 

 

ملاحقة الصحفيين عما يكتبونه في صفحاتهم الخاصة على فيسبوك وتويتر؛ هي خطوة جديدة على طريق خنق ما تبقى من حرية التعبير في مصر

جاءت خطوة إغلاق وحجب المواقع (التي مرت بمباركة مجالس الإعلام) ضمن حملة شاملة لقمع الصحافة المصرية، والعودة بها إلى منظومة إعلام الستينات التي حسد السيسي سلفه عبد الناصر عليها، لاصطفافها خلفه في كل شيء دونما معارضة أو تحفظ. وكان ضمن هذه الحملة لتوحيد الصوت الإعلامي خلف السيسي؛ أكبر حركة تأميم ناعم للقنوات الأكثر انتشارا والأعلى صوتا، وتكفلت المخابرات العامة والحربية بهذه المهمة، عبر إنشاء شركات (واجهات) مدنية لتأسيس قنوات جديدة مثل مجموعة "دي إم سي" (التي أصبحت مشهورة في مصر بأنها قناة المخابرات) أو الاستحواذ على قنوات قائمة مثل "سي بي سي" و"أون تي في" والعاصمة والحياة، والناس، وصحف ومواقع إخبارية مثل اليوم السابع، والوطن، وصوت الأمة ومبتدأ، ودوت مصر" وإذاعات، مثل "راديو 9090" و"أر دي إن"، وشركات إنتاج سينمائي، مثل مصر للسينما التي تعكف حاليا على إنتاج فيلم بعنوان "سري للغاية"، عن ثورة يناير وفترة حكم الرئيس مرسي وصولا إلى الانقلاب العسكري، من وجهة نظر المخابرات المصرية، وشركات تسويق ودعاية وإنتاج عديدة. وتستحوذ هذه المنظومة الإعلامية على حوالي 70 في المئة من المشاهدة في مصر حاليا.

 

 

 

نتذكر هنا حديث السيسي عن صناعة الأذرع الإعلامية التي - كما قال - تأخذ وقتا وجهدا، لكنها تحقق نجاحا


ومرة أخرى نتذكر هنا حديث السيسي عن صناعة الأذرع الإعلامية التي - كما قال - تأخذ وقتا وجهدا، لكنها تحقق نجاحا. وقد مكنت هذه الهيمنة المالية والإدارية على هذا العدد من القنوات المخابرات الحربية من التدخل المباشر في توجيه هذه القنوات، باعتبارها ملكها الخاص. ولم تكتف بتحديد سياسات عامة لرؤساء القنوات أو رؤساء التحرير بها، بل إنها وصلت إلى حد الاتصال بالمذيعين ومقدمي البرامج والفنانين مباشرة، وتلقينهم ما يقولون وما لا يقولون، كما ظهر في التسريبات التي بثتها قناة مكملين مؤخرا لأحد ضباط المخابرات الحربية (أشرف الخولي).

هذه الهيمنة الواسعة على الإعلام بشقيه العام (قنوات ماسبيرو والصحف القومية) والخاص (قنوات رجال الأعمال وشركات المخابرات)، لا تستهدف فقط تحقيق تصور السيسي لما وصفه بالاصطفاف الإعلامي، ولكنها تستهدف أيضا تجنب "المطبات الإعلامية" التي لا تحتملها سلطة السيسي المقبلة على مسرحية انتخابية جديدة تريد لها أن تخرج بالصورة التي رسمتها، ولا تريد أن يتكرر ما حدث في انتخابات 2014، حين أظهرت القنوات الفضائية المملوكة لرجال الأعمال اللجان خاوية من الناخبين، وكان ذلك ردا غير مباشر من ملاك تلك القنوات على ضغوط السيسي عليهم، وإجبارهم على تقديم تبرعات ضخمة لصندوق "تحيا مصر" الذي أنشأه السيسي وطلب رفده بمئة مليار جنيه. وكأنهم أرادوا أن يذكروا السيسي - وقتها - بأنهم من صنعه، وأنهم من مهدوا له الطريق للوصول إلى قصر الاتحادية، وأنهم من ساندوا انقلابه على الشرعية، وأنهم في الوقت نفسه قادرون على هز حكمه مجددا، كما فعلوا مع الرئيس مرسي من قبل.

 

تجريف الحياة الإعلامية بعد تجريف الحياة السياسية هو سمة طبيعية لنظم الحكم العسكرية القمعية، وهو البيئة الطبيعية لولادة الإرهاب وإزدهاره


للسيطرة على الإعلام أيضا، عمدت سلطة السيسي لتفريغ النصوص الدستورية الداعمة لاستقلال وحرية الصحافة من محتواها، عبر سن قوانين من خلال البرلمان الذي تهيمن عليه بشكل شبه تام. وظهر ذلك جليا في تعطيل نصوص الدستور التي تمنع حبس الصحفيين في قضايا النشر، حيث يقبع في السجون 106 صحفيا (وفقا لتقرير المرصد العربي لحرية الإعلام)، كما تم تعطيل النص الدستوري الذي يمنع إغلاق الصحف والقنوات، أيضا تم تعطيل النص الذي يحمي استقلال الصحافة والمجالس التنظيمية لها، مثل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام (الذي يرأسه حاليا مكرم محمد أحمد)، والهيئة الوطنية للصحافة والهيئة الوطنية للإعلام. فمن حيث التشكيل، تم فرض هيمنة السلطة التنفيذية على مجالس تلك الهيئات، ومن حيث طبيعة العمل، أصبحت تلك الهيئات مجرد أداة بيد الحاكم لقمع حرية الصحافة والإعلام، رغم أن مهمتها، وفقا للدستور ولقانون إنشائها، هي ضمان حرية الصحافة والصحفيين. ومن هنا، وجدنا ذاك التصريح لمكرم محمد أحمد حول ملاحقة الكتابات الشخصية على فيسبوك وتويتر، وقد سبقتها العديد من التصريحات التي تبرر حبس الصحفيين، وإغلاق الصحف، وحجب المواقع، ووقف البرامج، ومنع المقالات التي تحمل قدرا من النقد للسلطة الحالية، وغيرها من الانتهاكات، ولتصبح هذه المجالس وصمة عار جديدة في جبين مصر.

تجريف الحياة الإعلامية بعد تجريف الحياة السياسية هو سمة طبيعية لنظم الحكم العسكرية القمعية، وهو البيئة الطبيعية لولادة الإرهاب وإزدهاره، والذي يطال شرره الجميع، ويدفع ثمنه الجميع.