كتاب عربي 21

رؤيتان عربيتان للقدس.. ومرحلة جديدة من التيه العربي!

1300x600

لن يغير قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال الكثير على أرض الواقع، وسيبقى غالبا بدون إسقاطات عملية في المدينة، ولكن القرار يمتلك أهمية من زاوية أخرى ربما لا تقل عن التغييرات العملية، وهي زاوية حرب الإرادات، وصراع المواقف، باعتبار القدس هي "باروميتر" الصراع العربي الإسرائيلي، وهي المركز الأكثر تكثيفا لقياس حيوية العرب، وقدرتهم على اتخاذ مواقف للدفاع عن مقدساتهم وقضاياهم القومية.

الترامبية والرهان على "البلطجة"

إذا كان من كلمة واحدة يمكن أن تصف سياسة ترامب أو "الترامبية" في الشرق الأوسط، فهي "البلطجة"! فهذا الرجل المسكون بالقوة وبالزعم باستعادة "عظمة أمريكا"؛ لا يؤمن بالدبلوماسية، ولا يؤمن بالحسابات الدقيقة "للمؤسسات" الأمريكية لنتائج وتداعيات سياسات الإدارة تجاه العالم، وخصوصا الشرق الأوسط.

 

الرهان على قوة "البلطجة" جعل ترامب مثلا لا يأبه "بالتنمر" على حلفائه (هذا إذا كان يعتبرهم حلفاء) في الشرق الأوسط، بل إنه بالغ في إهانتهم وإحراجهم بتصريحاته


الرهان على قوة "البلطجة" جعل ترامب مثلا لا يأبه "بالتنمر" على حلفائه (هذا إذا كان يعتبرهم حلفاء) في الشرق الأوسط، بل إنه بالغ في إهانتهم وإحراجهم بتصريحاته البعيدة عن الدبلوماسية والحسابات العقلانية للسياسة والعلاقات بين الدول، وفي هذا الإطار لم يتوان أن يتفاخر أمام جمهوره في الولايات المتحدة بأنه ذهب للخليج وعاد من السعودية بمئات المليارات و"الوظائف.. الوظائف.. الوظائف"، دون أن يأخذ بعين الاعتبار أن هذه اللغة قد تسبب الإحراج للحكومة السعودية أمام شعبها. نفس الأسلوب اتبعه ترامب أيضا في تعامله مع أزمة حصار قطر، حيث قال في تغريدات مثيرة إن قادة دول الخليج أشاروا بأيديهم إلى قطر عندما تحدث في قمة الرياض عن مكافحة الإرهاب وتمويله!

قرار ترامب حول القدس اعتمد على نفس الرهان أيضا، فقد أكد في تبريره للقرار بأنه يمتلك الشجاعة التي لم يمتلكها الرؤساء السابقين، ولهذا فإنه سيطبق قرار الكونغرس الصادر عام 1995، بينما امتنع كل من كلينتون وبوش الإبن وأوباما عن تطبيقه، بسبب عدم امتلاكهم "للشجاعة"، بحسب ترامب.

وإذا أردنا التدليل على عقلية "البلطجة" الترامبية بخصوص قراره المتعلق بالقدس، فلن نجد أفضل من تصريح مندوبة أمريكا في مجلس الأمن نيكي هايلي، والتي سخرت من تداعيات القرار في تصريحات لقناة "سي إن إن"، قالت فيها إن البعض توقع أن يؤدي إعلان نقل سفارة واشنطن إلى القدس إلى أن تنطبق السماء على الأرض، ولكن هذا لم يحدث!

ولكن ما الذي يشجع ترامب على الاستمرار بهذه المقاربة في الشرق الأوسط؟ لا تكفي "شخصية الكاوبوي" المتفلتة من توازنات الدبلوماسية التي يتمتع بها ترامب لتفسير الأمر، إذ أن الرئيس القادم من خلفية المال والأعمال يجيد بالتأكيد حسابات الربح والخسارة، وبالتالي فإن من المؤكد أنه قرأ هذه الحسابات من خلال معرفته لردة الفعل الرسمية لبعض الدول العربية، وخصوصا مصر والسعودية!

الموقف العربي: صراع بين رؤيتين

عندما تعرض الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات لضغوط أمريكية شديدة في قمة كامب ديفيد عام 1999، ليقدم بعض التنازلات في القدس، قال للمسؤولين الأمريكيين إنه يمكن أن يوافق على الصفقة المعروضة عليه فقط إذا حصل الأمريكيون على موافقة السعودية ومصر والأردن عليها، وذلك لأنه كان يدرك أن أيا من زعماء الدول الثلاثة لا يمكن أن يقبل بتحمل مسؤولية الموافقة على صفقة لا تقدم للفلسطينيين والعرب والمسلمين الحد الأدنى من حقوقهم في القدس. وبعد 18 عاما من هذه القمة، لم يخسر الرئيس عباس فقط هذا الدعم الذي يمكن أن يستخدمه لمقاومة ضغوط واشنطن، بل إن بعض الدول التي لجأ لها عرفات؛ أصبحت هي الآن تمارس الضغوط على الفلسطينيين والأردنيين لصالح واشنطن، ولا بد أنها هي من ساهمت في تعزيز القناعة لدى ترماب بالتقليل من تداعيات قرار نقل السفارة والاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال!

 

بعض الدول التي لجأ لها عرفات؛ أصبحت هي الآن تمارس الضغوط على الفلسطينيين والأردنيين لصالح واشنطن


وإذا استطعنا أن نأخذ موقف عرفات في كامب ديفيد كمؤشر على وجود رؤية واحدة عربية تجاه القدس، فإن ما سبق قرار ترامب الأخير من تحركات وما تبعه من ردود يشير بشكل واضح إلى اختلاف الوضع عما كان عليه قبل 18 عاما، حيث أصبح اليوم للعرب ولدول الإقليم - كما يبدو - رؤيتان مختلفتان تجاه المدينة، وتجاه الصراع العربي الإسرائيلي ككل. وتمثل مصر والسعودية وحلفاؤهما إحدى هاتين الرؤيتين، فيما يمثل الأردن وعباس وتركيا ودول أخرى؛ الرؤية الأخرى.

تمايز الموقف الأردني والتركي والفلسطيني بشكل خاص منذ بدء تحركات ترامب للإعلان عن قراره تجاه القدس، وعبرت هذه الدول بشكل واضح وبصوت مرتفع عن رفضها التام للقرار وحذرت من تداعياته الخطيرة، كما شاركت، بعد إعلان ترامب، بأعلى مستويات التمثيل في القمة الإسلامية التي دعا لها أردوغان في إسطنبول. وعلى صعيد الخطاب، فقد كان مستوى النقد لقرار ترامب من هذه الدول هو الأكبر، وبدا ذلك واضحا في القمة الإسلامية، وفي خطابات زعماء هذه الدول، وفي خطاب غير مسبوق، خصوصا في الأردن على مستوى الملك والملكة والحكومة وأمراء من الصف الأول.

وبمقابل ذلك الخطاب المرتفع من قبل الدول المذكورة أعلاه، كان خطاب الجانب الآخر منخفضا ودبلوماسيا إلى أبعد الحدود، ولا شك أنه ساهم في تخفيف حدة الحذر لدى إدارة ترامب من اتخاذ قراره الأهوج، بل إن الأمر وصل إلى ممارسة ضغوط مصرية سعودية على الملك عبد الله الثاني ومحمود عباس للامتناع عن المشاركة بالقمة الإسلامية على مستوى الزعماء، بحسب تقرير الكاتب البريطاني ديفيد هيرست في موقع ميدل إيست آي.

 

فاجأت قلة الاهتمام السعودي بالقدس، حتى كبار باحثي معهد واشنطن


لقد فاجأت قلة الاهتمام السعودي مثلا بالقدس، حتى كبار باحثي معهد واشنطن الذي يعتبر مركز التفكير الأهم للوبي الصهيوني في أمريكا، وهو ما عبر عنه مدير المعهد روبرت ساتلوف في مقال له في مجلة فورين بوليسي بعنوان "محمد بن سلمان لا يريد الحديث عن القدس" (Mohammed bin Salman Doesn’t Want to Talk About Jerusalem).

 

ولعل هذا المقال هو الأهم في توضيح رؤية السعودية (والمصرية إلى حد ما) الجديدة تجاه القدس والصراع العربي الإسرائيلي. فالمهم هنا هو العلاقات الأمريكية السعودية، وكسب واشنطن إلى معسكر الصراع مع إيران، ولو استدعى ذلك ليس فقط التخلي عن الدور المطلوب لتقوية الموقف العربي تجاه صراع لا يعني الفلسطينيين، بل العرب جميعا من زاوية التأثير على أمنهم القومي، بل يتعدى ذلك إلى الضغط على الفلسطينيين وعلى الأردن لإضعاف موقفهم.

ومن الواضح أن الرؤية المصرية السعودية الجديدة تنطلق من حسابات تخص دوائر الحكم في هذين البلدين، إذ تعتقد هذه الدوائر أن علاقات أفضل مع واشنطن هي في مصلحة قوة و"شرعية" الحكم في البلدين، وفي مصلحة صراعات هاتين الدولتين مع دول إقليمية أخرى مثل صراع مصر مع تركيا وصراع السعودية مع إيران، كما تعتقد هذه الدوائر - كما يبدو - أن الحصول على علاقات أفضل مع واشنطن يتطلب تقديم تنازلات في الموقف تجاه الصراع العربي الإسرائيلي.

 

الرؤية المصرية السعودية الجديدة تنطلق من حسابات تخص دوائر الحكم في هذين البلدين

فالخلاف الرئيسي هنا بين الرؤيتين في المنطقة، هو أن مصر والسعودية وغيرهما من الدول الحليفة لهما مستعدة لتسريع "التطبيع" مع الاحتلال حتى بدون حل شامل للصراع العربي الإسرائيلي، بل إن هذه الدول مستعدة أيضا للضغط على الدول المعنية بشكل مباشر بالصراع للقبول بأي حل لتبرير تسارعها غير المحسوب للتطبيع. وفي مقابل ذلك، فإن الأردن والفلسطينيين ومعهما دول أخرى مثل تركيا ومعظم الدول العربية يرون أن التطبيع يجب أن يرتبط مع حل الصراع، وأن لا يتم هذا الحل على حساب الحقوق الفلسطينية ولا على حساب المصالح الأردنية المتمثلة بحل عادل للاجئين وباحترام دور عمان في المقدسات الإسلامية في مدينة القدس.

وبعيدا عن الشعارات وبلغة السياسة المجردة، وبعيدا عن إيماننا بأن الأمن القومي العربي هو أمن واحد مترابط ويتصل بشكل مباشر بالصراع العربي الإسرائيلي، فإن من حق الدول التي تعتقد أنها بحاجة للتطبيع ولإقامة علاقات مع الاحتلال لتحقيق أهدافها أن تمارس هذا الحق، وأن تتحمل مسؤوليته شعبيا وسياسيا، ولكن ليس من حقها أن تمارس الضغوط على دول أخرى لا تزال تؤمن أن الصراع مع المحتل لا يمكن أن ينتهي دون الحصول على الحد الأدنى من الحقوق المشروعة لشعوب ودول المنطقة المعنية مباشرة بالصراع.

هي مرحلة أخرى من التيه العربي إذن، لم نعد نتوقع فيها من بعض العرب الدعم للدول التي تعاني مباشرة من سياسات الاحتلال الصهيوني، بل نطلب فقط منهم أن لا يكونوا جزءا من الضغط على هذه الدول والوقوف على الحياد!