كتاب عربي 21

مجزرة المسجد.. وسياسة التهجير والتدويل

1300x600

تفرض علينا هذه المجزرة، بثقلها وكثرة ضحاياها، واستهداف المسجد في أول سابقة من نوعها بين تلك الحوادث التي تتكرر تحت عنوان يتعلق بالإرهاب.. تفرض نفسها بحيث لا يمكن أن نتغافل عنها أو لا نتعرض لها، ذلك أن هذا الحدث بكل سوابقه وبكل سياقاته ولواحقه؛ إنما يفرض علينا تفكيرا مختلفا لتناول الحدث، مفترقا في ذلك عن حوادث سابقة؛ لأن هذه المجزرة في حقيقة الأمر تشكل سابقة لا مثيل لها، وحالة نوعية جديدة من المفروض الوقوف على دواعيها، وعلى تشريح دلالاتها، وعلى الوقوف على مآلاتها وآثارها.

نظن أن الحدث كغيره من الحوادث؛ تعددت بصدده الروايات، ولم يخرج النظام الانقلابي علينا - كعادته - بأي معلومات تتمتع بالشفافية الواجبة، إلا من تصريح مكرر من قائد الانقلاب الذي يخرج علينا في كل مرة متجهما يتوعد بالثأر والانتقام.. وتمر الأسابيع والأيام فلا نعرف لهذا الحدث من رواية قاطعة، ولا نعرف لها نتائج تحقيقات ولا ما تتمخض عنه، لكننا سنسمع أخبارا من متحدث عسكري يصدر بيانات على صفحته؛ مشيرا إلى حملات وطلعات بطائرات وضرب بقذائف، وإعلان مبهم أنه قتل عددا بعينه يحدده برقمه، من غير أي قرائن واضحة.

 

ويؤكد المرة تلو المرة أنه قضى على الإرهابيين الذين قاموا بهذا العمل الشائن والجبان، ثم تخرج الآراء والتحليلات كالعادة، ويتفنن البعض من جوقة الإفك الإعلامي في إطلاق التحليلات؛ معالجا هذه الحوادث المتكررة بذات النهج.. يتحدث عن استهداف مصر بالإرهاب، وعن ضرورة المواجهة الواسعة، وأن مصر تواجه الإرهاب وحدها. ولا بأس بمعزوفة الاستهداف والحديث عن الإرهاب المحتمل، وإسناد ذلك إلى الخصم التقليدي المتمثل في الإخوان، والحديث عن الضرب بيد من حديد، وأن الحل في التهجير وإخلاء المكان حتى يستطيع الجيش أن يتصرف مع الإرهاب الجبان.

في كل مرة سنشهد كل ذلك؛ من غير أن يتغير الكثير من المفردات والكلمات، رغم أن الحوادث تختلف، والأمر يتزايد، والإرهاب الحقيقي والتطرف الفكري يرتع ويمرح؛ يجوب البلاد طولا وعرضا، وخاصة منطقة سيناء التي تحولت إلى منطقة عسكرية، إلا أنها رغم ذلك تظل مسرحا اعتياديا ومتكررا لعمليات تتفاوت في اتساعها وشدتها. إلا أن هذه الأحداث صارت تنتقل من مكان إلى مكان.. من رفح إلى العريش إلى القنطرة، وبدأت هذه المساحات تنضم إلى مطالبات بالتهجير، خطابا ممنهجا ومخططا لتفريغ بعض من أرض سيناء؛ لاصطناع منطقة عازلة لحماية الكيان الصهيوني في فلسطين. وتبدو هذه المسألة كسياسة معتمدة، حيث تبرز التصريحات من مسؤولين رسميين في الإقليم وعلى المستوى الدولي؛ بفتح صفحة في كتاب صفقة القرن تحتل فيه سيناء فصلا مهما، يرتب له عملا ويدبر له خططا.. تؤكد ذلك تصريحات من "ترامب" ومن داخل الكيان الصهيوني، ومن مسؤولين ليتحدثوا عن وعد السيسي في سيناء وصفقة القرن.

 

تبدو سياسات النظام في اصطناع حالات من الفرقة والكراهية، وحالات من التفريغ في أرض سيناء


تبدو سياسات النظام في اصطناع حالات من الفرقة والكراهية، وحالات من التفريغ في أرض سيناء، ومقدمات لعمليات تدويل لمقاومة ما أسموه بالإرهاب في سيناء، من دون أن ينسى "السيسي المنقلب" تفويضه المزعوم لمواجهة العنف والإرهاب المحتمل، وبمعنى أدق المصطنع، بينما هو يغطي بتلك المواجهة لذلك الإرهاب الذي اصطنعه وفق خططه؛ على إرهاب حقيقي يمرح ويرتع، يتمدد ويتنقل، يتخير أهدافه في كل مرة من دون أدنى مواجهة حقيقية، على ما أشارت عليه مقالة الجارديان التي كانت مثار تعليق من جانب سياسيين في الإقليم وفي مصر، ذلك أن انكشاف النظام وتقصيره على الأقل، وانكشاف النظام وتورطه في بعض الروايات، إنما يشير إلى أصابع اتهام لا يمكن بأي حال من الأحوال إنكارها بالنسبة لهذه المنظومة الانقلابية وفشلها؛ واستراتيجيتها التي لا تقوم على "تنمية سيناء"، بل "تنحية سيناء"، وهو أمر شديد الخطورة ضمن عملية التدويل.

نتوقف قليلا عند العلاقات بين الإرهاب المحتمل، وإن شئت الدقة المصطنع وبين الإرهاب الحقيقي، والمواجهة الفاشلة القاصرة التي تقوم بها القيادة الانقلابية، ذلك أن الإرهاب المحتمل، الذي أشار له السيسي مبكرا بعد انقلابه، إنما قصد به هذا الخصم الذي احترف شيطنته واصطناع مسؤوليته عن كل أحداث العنف التي تحدث على أرض مصر، وهو أمر في حقيقته يتم في دائرة الصناعة الإعلامية والترويج الزائف الذي يتخير خصما ضعيفا ينكل به ما أراد؛ حتى يؤكد أنه يواجه الإرهاب ويكافحه. ولكنه حينما يواجه هذا الانقلاب المصطنع الذي اصطنع صورته؛ يترك الإرهاب الحقيقي الذي لا يقوى على مواجهته، ليقوم (الإرهاب الحقيقي) بعمليات متنوعة تشير إلى تفوقه على أجهزة أمنية وعلى قوات عسكرية، وفي كل مرة يكشف عن تقصيره؛ إذا ما علمنا أن قوات عسكرية لا يزيد بعدها عن كيلومتر واحد من المسجد؛ لم تتحرك لنجدة هؤلاء الضحايا، وأن كمينا متحركا لا يبعد سوى عشرة كيلومترات لم يتحرك رغم وصفه بالمتحرك، وأن المتطرفين قاموا بعملياتهم وانسحبوا من دون أدنى مواجهة.. في كل مرة ستخرج الطائرات وتقوم بضربات عشوائية في محيط المكان، وتوقع ضحايا جدد يضافون إلى الآخرين، لتزيد الأزمة تأزيما والكارثة مهزلة.

 

استدراج منطقة سيناء إلى حالة من التدويل، حينما ينادي المنقلب، وبصوت عال، بأنه "يواجه الإرهاب وحده

أما الأمر الثاني الخطير، فإنه يتعلق في حقيقية الأمر باستدراج منطقة سيناء إلى حالة من التدويل، حينما ينادي المنقلب، وبصوت عال، بأنه "يواجه الإرهاب وحده"، ثم يجيب عليه ترامب، على بعد آلاف الأميال، بتغريدته العجيبة والغريبة التي يشير فيها إلى ضرورة الحسم العسكري، وهو ما قد يشير إلى تهيئة المناخ لقوات غير مصرية يمكن أن تتدخل في تلك المنطقة، وهو ما يدفعها دفعا إلى أن تكون ضمن مشروع دولي في صفقة القرن المزعومة، مع توارد خطاب من هنا وهناك، وظهور تصريحات في هذه التوقيتات حول أنه "لا مكان يسع الفلسطينيين ودولتهم إلا سيناء".. ماذا يعني ذلك إلا أن يكون تخطيطا ممنهجا يستغل هذه الأحداث في استحداث أوضاع جديدة؛ تدخل سيناء في إطار التدويل والمقايضة والمساومة والمفاوضة؟

ولا تبتعد مشروعات صفقة القرن حول تطويق قوى المقاومة، ممثلة في حماس، وتصاعد المطالبات بمصادرة سلاح حماس، وكذا ارتفاع الأصوات في مصادرة سلاح حزب الله. ومع اختلافنا مع حزب الله في سوريا ومساعدته لنظام بشار الجزار في إبادة الشعب السوري، إلا أن هذا التزامن إنما يدار لمصلحة الكيان الصهيوني، ضمن مطالبات عربية للأسف، قبل أن تكون مطالبات من الكيان الصهيوني، ليزيد كل ذلك الأوراق اختلاطا، ويتأكد المعنى الذي تتشابك فيه المساحات في صفقة القرن؛ بفتح صفحات متزامنة ومتتابعة لا يقصد منها إلا العمل على تأمين الكيان الصهيوني، وتصفية القضية الفلسطينية ضمن تسوية مفروضة.

 

يزيد كل ذلك الأوراق اختلاطا، ويتأكد المعنى الذي تتشابك فيه المساحات في صفقة القرن؛ بفتح صفحات متزامنة ومتتابعة

هذه بعض القراءات والمالات التي نتصورها لمثل هذا الحدث؛ الذي يظل حدثا فارقا وكاشفا ونوعيا لا يمكننا بأي حال من الأحوال إلا أن ننظر له ضمن ما يراد بالمنطقة وبأرض سيناء وأهلها.. يقوم المنقلب بدور في تلك المأساة التي تخطط للإقليم، وللقضية الفلسطينية ولحركة المقاومة للكيان الصهيوني، ولتبرز تلك الكلمة السحرية "مكافحة الإرهاب" ليبقى المستبدون جاثمين على قلب المنطقة.. يتعاون المستبد مع المستعمر لتحقيق مصالح متبادلة في نهب الشعوب، وتحقيق مصالح القوى الكبرى، وفي استعباد الشعوب، والاستخفاف بكل مطالبها في التغيير والنهوض من قبل مستبديها، ليتعاون ذلك المثلث الجهنمي: "مصالح قوى الغرب" و"بطش المستبد" و"غطاء الإرهاب"؛ الذي صار الثالوث المدمر للمنطقة واستهداف آمالها في النهوض والتغيير.