1300x600
الشرف لغةً هو العلو، ومن الصعوبة تحديد تعريف اصطلاحي جامع لمفهوم الشرف، إلا أنها قد تعني كل ما يجعل الفرد في مرتبة مجتمعية عالية سواء بالنسب العائلي أم بالمال أو بالعلم أو بالمكانة الاجتماعية، وهو مصطلح جامع وقد استطاع التربع على عرش الصفات الحسنة التي قد يمتلكها الإنسان، وصنع صورة ذهنية رائعة عند الغالبية حتى أصبحت صفة الدفاع الغالبة عندما يتهمك أحد بأي نقيصة فتردد فورا نحن شرفاء لا نفعل ذلك.

لا أدري ما سبب محاولة الكتابة عن تعريف الشرف قبل الحديث عن أصل الموضوع الذي أنوي التحدث عنه، ولكن الحقيقة أن حجم التلاعب بالألفاظ والمصطلحات أصبح ضخما للغاية، ولا يمكن التمييز بين الخطأ وبين التدليس، على أية حال ليس هذا المصطلح وحده من يتم استغلاله بل ربما كل الكلمات والمعاني، فأصبحت هناك جمل لا يمكن تحمًّلَها بسبب التشويه الكبير في المفاهيم فضلا عن خطأ المحتوى نفسه.

فاستخدام تلك المرادفات الفضفاضة التي لا يمكن توصيفها أو قياسها والتي تحتوي على الكثير من القيم "مثل كلمة الشرف" لا يمكن تمريرها دائما بنية حسنة، وخاصة عند اقترانها بعبارات لا يمكن تصديقها، ويبدو أن اقتران مصطلح الشرف بعبارات مضللة ليس بريئا.

لا زلت أحاول الاقتراب من أصل الموضوع، ولكن قبل البدء سأذكر عدة شخصيات نحاول أن نفهم منها قدر المستطاع معنى الشرف لعلنا نقرب الأمر.

الأول سفدريجايلوف: وهو شخصية في رواية الجريمة والعقاب لديستويفسكي، كان رجلا فاسدا يعمل من أجل تدمير من حوله وإدخالهم معه في دائرة الفساد، قرر سفدريجايلوف في لحظة ما الانتحار وكان يقول إنني ذاهب إلى أمريكا ولا أحد يفهم أنه يعني الانتحار، انتحر بعد موقف صادم واحتقار لا يحتمل من إحدى بطلات الرواية، ربما لم يكن هذا هو السبب، فهو قرر الانتحار قبل ذلك، إلا أنه من الشرف أحيانا أن يعاقب الإنسان نفسه على حقارته، فيمكن أن نعتبره السافل الذي تحول ليصبح شريفا!

الثاني دون كورليون بطل العمل الملحمي الأب الروحي وهو زعيم للمافيا، طوال العمل تشعر بقدر ما من الاحترام لكورليون، ولكن لابد أن لا تنس أنه من زعماء المافيا، ولا أعلم أمن الشرف أن ترفض بيع المخدرات لتلاميذ المدارس بينما لا تجد مشكلة في بيعها لغيرهم، ربما أحيانا يكون الشرف نسبي. ربما!

الثالث الشريف حسين أمير مكة والذي تعاون مع الانجليز ضد العثمانيين، فهو من أصل شريف لا جدال ولكن هل ما فعله يتفق مع ما يحمل معنى الشرف من مفاهيم؟

نماذج ثلاثة مختلفة الأول عاش عمره كله وضيعا وقرر أن يتصرف بشرف في النهاية، والثاني لم يكن وضيعا ولكنه كان مجرما يحاول أن يتعامل بشرف، والثالث كان شريف المحتد ولكنه تصرف أسوأ من كورليوني ومن سفدريجايلوف، ومن المهم ملاحظة أن التصرف بشرف في موقف ما أو حتى امتلاك اللقب رسميا لا يعني أن الشخص شريف.

في بعض الأوقات أتذكر حكاية قديمة لا أدرى مدى صحتها ولا حتى أتذكر قائلها، كان ثلاثة يمتلكون مزرعة كبيرة؛ ويمتلكون الكثير من الحراس لتأمين المزرعة، وكان يعيش بجانبهم مجموعة من قاطعي الطرق، وقرر أحد الشركاء الثلاثة الاستعانة بقطاع الطرق للاستيلاء على كامل المزرعة، وأحس أحد المغدورين بما يحدث وأخبر زميله الثالث إلا أنه لم يقتنع وأصر على أن هذا لم يعد ممكنا.

حدثت الكارثة وفر أحد المغدورين وحبس الخائن الرجل الثالث، وبدأت مؤشرات تمرد في المزرعة، إلا أن الخائن ورجاله من قاطعي الطرق بدأوا في السيطرة على الجميع و حاولوا السيطرة على مسارات التمرد نفسها، وقرروا عمل كل شيء وكل احتمال، حتى أنهم بدأوا في تقسيم أنفسهم كمتمردين وهميين بل ومناضلين وثوار، وكانوا آخر اليوم يجلسون في قصر المزرعة يسقطون على ظهورهم من الضحك عندما يتذكرون أحداث اليوم عندما خرج واحد منهم أمام عمال المزرعة ليعارض صاحب المزرعة، وتصل نوبة الضحك الهستيري لآخرها عندما يصلون لحكاية مشهد مطاردته من رجال أمن المزرعة.

ثم يحكي الآخر عن الزيارة التي قام بها لصاحب المزرعة السجين ليقنعه أنه معه على الطريق وأن عليه بالصبر حتى يخلصه من سجنه ويعيد له حقه الضائع، وأنه شريف لا يقبل الظلم، لا يستطيع الجمع السيطرة على دموعهم المنهمرة من كثرة الضحك، ولا يفهمون الكلمات التي تخرج من فم المتحدث ولكنهم يحفظون الكلام عن ظهر قلب من كثرة ما سمعوه، ولا يمكننا تحديد سبب الضحك أهو الكلمات نفسها أم لأن الحكاية تكررت عشرات المرات قبل ذلك؟

على أية حال الحكاية لم تنته ولا أعرف نهايتها، أما أنها تتكرر.. فنعم هذا يحدث، ويبقى سؤال الشرف ماذا يعني عندما تتحدث عن السفلة والمجرمين والخونة وقاطعي الطرق، وهل يمكن أن نعلي من شأنه قليلا ولا نطلقه على كورليوني وسفدريجايلوف والشريف حسين؟ هل يمكن أن نرى بخيالنا ذلك القصر الذي يضحكون فيه ويصل صوتهم إلى آذاننا ولكننا لا نريد سماعهم؟ هل يمكننا ألا نستخدم تلك الكلمة الكبيرة التي لا يستحقها إلا القليل ونبتعد بها قليلا عن توصيف كل الضاحكين في القصر المسلوب؟