قضايا وآراء

حوادث القطارات بين آلام المصريين واشتغالات المسؤولين

1300x600
حوادث القطارات في مصر منذ القدم تمثل أمرا متكررا اعتاد البسطاء والشرفاء عليه، وعلى آلامه ومآسيه. فيذكر صاحب هذه الكلمات الحادثة الأولى في حياته، وكانت في عهد الرئيس المصري الراحل "أنور السادات" في جنوب مصر، وقبيل عيد الأضحى المبارك في السبعينيات.. احترقت عربات من قطار قرب بلدتنا، ولم تكن الحوادث المُماثلة كثرتْ واشتدت؛ فتم ترك القطار بمخلفات الضحايا على مشارف البلدة، لأذهب مع الصبية صباح العيد لأشاهد مستلزمات حياتية للضحايا، وبقايا من أجسادهم بقيت بعد الحريق، فيما أصحابها في المستشفيات أو لدى يدي خالقهم، في مشهد لا أنساه، يُمثل ظلم وجور الطغاة على الإنسان في مجتمعاتنا العربية الإسلامية.

ولما اشتد عود الحياة بصاحب الكلمات؛ عرف أن حوادث القطارات في مدينته الهادئة الوادعة على طريق القاهرة - أسيوط الزراعي جزء من إيقاع الحياة في مصر، أو بعض مشابه ومتماهٍ ومتماسٍ ومتممٍ لمنظومة مظالم الساسة، وكبت الشعب بل تناسيه والتنكر لمآسيه. ولعل الكثيرين خارج مصر لا يعرفون معلومة متوارثة بالبداهة داخل أرض الكنانة؛ فيما يخص حوادث القطارات. فليس ما تتناقله وسائل الإعلام حول حوادث الصدامات المُذهلة بين قطارين يسيران في طريقين متضادين لكن على خط واحد، هو كل ما في الأمر، بل إن من حوادث القطارات عدم إغلاق طرق السكك الحديدية، الواقعة وسط السكان في القرى والنجوع وأعماق البلاد، بالسيمافور (سلسلة حديدية يصاحبها صوت تحذير قوي مميز بوجود قطار قادم) مما يساوي أن يُقتل فرد أو أكثر، سواء أكان سائرا على قدميه أو في سيارة.

والنتيجة أنه في عام 2009م، على سبيل المثال، أعلن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء عن"زيادة عدد حوادث القطارات إلى 1577 حادثة؛ بنسبة زيادة 22 في المئة عن عام 2008، حيث بلغ عدد الحوادث 1293 حادثة، تمثل منطقة الوجه البحري (الدلتا) أكبر عدد للحوادث، حيث بلغ 644 حادثة، بنسبة 40.8 في المئة وأقل عدد في المنطقة المركزية القاهرة، ليصل عدد الحوادث إلى 388 حادثة بنسبة 24.6 في المئة من إجمالي المناطق. والمُعدل في ازدياد مطرد بالطبع في السنوات الأخيرة؛ وإن غاب تقرير الجهاز الحكومي عن الإعلام.

والمُحصلة هي أن عدد المصريين الذين استشهدوا في الحروب الأربعة 1948، 1956، 1967، 1973م؛ لم يتعد، بحسب التقرير الحكومي السابق، 100 ألف، فيما عدد ضحايا حوادث الطرق من قطارات وسيارات تعدى في الفترة الزمنية السابقة لعام 2009م، فحسب، رقم ضحايا الحروب المصرية الأربع بكثير، بخاصة إذا أضفنا حوادث السيارات ونهر الدماء المحيط بها.

ومن بعد عام 2009م عرفتْ مصر حوادث القطارات الكبرى بمعدل مرتين في كل عام، وهي تساوي، غالبا، سقوط مئات الضحايا من شهداء ومصابين، بحسب التقارير الحكومية، فيما الحقيقة تتعدى هذه الأرقام بمراحل؛ حتى جاء حادث قطار الصعيد عام 2002م كأكبر كارثة قطار في تاريخ مصر، وقد وقع في مدينة "العياط" على بعد 70 كيلومترا جنوبي القاهرة، فيما لم تزل أسرارها خفية عصية على الفهم حتى الآن؛ كالمزيد من أسرار الحكم العسكري لمصر، في نسخة المخلوع "حسني مبارك"، كالعبارة السلام 98 ومأساة 3 فبراير/شباط 2006م البحرية، وأحداث الأمن المركزي عام 1986م.

أما أبرز تفاصيل مأساة قطار 2002م فكانت قبيل عيد أضحى جديد، مما ساوى أن البسطاء العاملين في القاهرة كانوا في طريقهم عائدين إلى أهاليهم في الصعيد "الجواني" أو المتناهي في البعد، وكان القطار يقف في كل مركز ومدينة ليلة العيد، مما يعني ركوب مزيد من الشرفاء البسطاء شبه المعدمين، فكان الازدحام على أشده. أسر كاملة، بعضها القليل اصطحب معه حتى الأضحية العجفاء، وفق ما سمحت ظروفه، وملابس العيد البسيطة، فاشتعلت العربات لمسافة تسعة كيلومترات، وامتدت النيران في صورة رهيبة عصيّة على الفهم العادي غير الجنائي. ومع امتداد النيران صارت الصورة مأساوية، فسائق القطار قيل إنه يكن لديه علم بما يجري في الخلف، والناس كانت تتقي النيران بالاحتماء بالفواصل الحديدية خلف بقايا المقاعد، والبعض الآخر صار يتسابق ليلقي بنفسه من نوافذ القطار للموت أو الإصابة الخطيرة هربا من النيران، والكثيرون لم يستطيعوا حتى إلقاء أنفسهم إلى التهلكة. وفي النهاية أعلن نظام "مبارك" حفظ التحقيقات وصرف النظر عن استشهاد 350 مصريا، بحسب الأرقام الحكومية، فيما تردد بقوة أن العدد تجاوز الألف بكثير، وأن المصابين يتجاوزون ذلك بما هو أكثر.

يومها كان وزير النقل في زيارة خارجية لحضور مؤتمر لا علاقة له لا بالنقل ولا بالمواصلات. وقبل عودته إلى مصر أعلن أنه سيشتري مرايات عاكسة دقيقة (كتلك التي في السيارات) ليعرف سائق القطار بوجود حريق فيه. ولما كان الكلام في جريدة "الأهرام"، فقد كان مؤشرا على بداية "الاشتغالات" الحكومية الإعلامية على أعلى مستوى للتغطية على الحادث، لولا أن كلام وزير النقل آنذاك "إبراهيم الدميري" استفز "مبارك" شخصيا، فرأى فيه كبش فداء مناسب يستحق الذبح للتغطية على أحداث خفية خطيرة ليس هذا أوان تذكرها.

ومن بعد حادثة قطار 2002م، أعلن "مبارك" عن تخصيص ثمانية مليارات جنيه لإعادة بناء السكك الحديدية المصرية كلها، وهو ما لم يحدث في الحقيقة، بل ابتلعت المبلغ - كالعادة - جيوب المسؤولين، وأولهم "مبارك" نفسه، وإن كان بسطاء المصريين فرحوا فرحة عارمة بإقالة "الدميري" في سابقة أولى في تاريخ حوادث القطارات!

ورغم كل ما سبق، فإن النظام الانقلابي المصري رحب بـ"الدميري" وزيرا للنقل والمواصلات من جديد في 23 من يوليو/ تموز 2013م في تحد جديد للمصريين!

أما حادث القطار المصري الأخير فإن المهندس "هشام عرفة"، وزير النقل المصري، لم ير بأسا ولا خوفا على نفسه أو تهديدا بالإقالة كالذي ناله "الدميري" مؤقتا، والوزير "رشاد المتيني" في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012م؛ على يد الدكتور "محمد مرسي"، خفف الله عنه وفرج كربه، إبان رئاسته للجمهورية، وبمنتهى البساطة أعلن "عرفة" عن تشكيل لجنة للتحقيق في الحادث وعن المبلغ التافه المعتاد لتعويض لأهالي الضحايا، وهو يختلف ويزداد تفاهة مع المُصابين. وعوضا عن مساءلة الوزير، انبرت الصحف المصرية الخاصة المحسوبة على الانقلاب؛ لتطبل وتهلل وتزمر لوفاة مستشار الوزير لشؤون الصيانة بأزمة قلبية، الجمعة، إثر رؤيته لضحايا قطار خورشيد الأخير بالإسكندرية. والراحل كان مصابا بالقلب فعادوته غيبوبة توفي على إثرها، رحمه الله. ورغم أنه من البديهي أن الموت له جلالهة ولا تجوز معه المُزايدة والحماقة والاشتغالات السياسية، لكن الجرائد المصرية راحت تهلل لإنسانية المُتوفى ودقة مشاعره. ولو كان المسؤولون الأحياء بالسكك الحديدية المصرية لديهم شيء من الإنسانية لاستقالوا جميعا إثر مقتل قرابة 50 روحا بريئة، على الأقل، في حادث صار مكررا كل حين لا يؤذي فاسدا، ولا يؤلم ميت ضمير، بخاصة أن الحادث الأكبر منذ تولي قائد الانقلاب "عبد الفتاح السيسي".

وقى الله مصر والأمة العربية الإسلامية الشرور ما ظهر منها وما بطن، والاشتغالات المترتبة عليها!