كتاب عربي 21

الأيام المُلْتَبِسَة في الثورة المصرية

1300x600
ما أكثر تلك الأيام المُلْتَبِسَة في الثورة المصرية!

إنها الأيام التي تكثر فيها الأحداث، فترى من يُكبِّرُ أحداثا معينة ليصل إلى نتيجة معينة، وترى من يُكبِّرُ أحداثا أخرى ليصل إلى نتيجة مغايرة.

وترى من يصر على رؤية تلك الأحداث من منظور معين لإثبات وجهة نظره، متجاهلا أن للمشهد أكثر من زاوية للرؤية، تؤدي إلى نتائج متباينة.

أيام عديدة، عشرات الأحداث، تجد فيها عشرات الروايات، بل ربما مئات، وأحيانا آلافا!

يظن البعض أن هذه الأحداث لها روايتان، رواية السلطة، ورواية الثورة، أو رواية الإسلاميين، ورواية التيار المدني.. إلخ

والحقيقة أن داخل كل رواية من هذه الروايات توجد مئات الروايات والنظريات الفردية والجماعية، وبالتالي.. نحن أمام عدد لا محدود من الروايات التاريخية لأحداث الثورة، بعضها مخلص، وبعضها مغرض.. بعضها يتعمد الكذب، وبعضها ينقل الكذب دون أن يدري.. بعضها يحاول أن يكون منصفا، وبعضها لا هم له سوى تبرئة فصيل وتجريم آخر.

لا أحد يستطيع أن يفرض روايته التاريخية للأحداث، ولكن هناك من يملك الأدوات الإعلامية ويستطيع من خلالها أن يبقى الخلاف مشتعلا، ومن مصلحته أن يبقى الخلاف مشتعلا، وستجد دائما أن هناك من يشعل الخلاف في كل (موسم) ثوري، ومع كل حدث مُلْتَبِس.

في مارس.. ذكرى خيانة الإسلاميين للثورة في استفتاء التاسع عشر من مارس 2011.. قالت الصناديق للشريعة نعم.. (واللي مش عاجبه يسافر كندا)!

في يونيو.. ذكرى خيانة التيار المدني للديمقراطية و(سهرة ثلاثين سونيا)!

في يوليو.. ذكرى انقلاب الثالث من يوليو وخيانة التيار المدني للثورة!

في يوليو.. ذكرى مجزرة الحرس الجمهوري.. ومجزرة المنصة.. وتفويض الدم.. وخيانة عبيد البيادة لرفاق الثورة..!

في أغسطس.. باعونا في رابعة!

في أكتوبر.. ذكرى مجزرة ماسبيرو..!

في نوفمبر.. باعونا في محمد محمود.. الإعلان الدستوري الاستبدادي للرئيس (الاسبتن)!

في ديسمبر.. باعونا في مجلس الوزراء.. وأحداث الاتحادية.. وشهداء الإخوان.. والحسيني أبو ضيف (رحمهم الله جميعا)!

وهكذا.. تستمر اللجان الإلكترونية في القيام بدورها الحيوي كل عام، عاما بعد عام، لكي تظل النار في الصدور، ولكي تظل الصفوف متفرقة، ولكي يظل الظالم في مأمنه من الثوار.

الغريب أن كثيرا من المحسوبين علينا ثوارا من سائر التيارات ما زالوا يصرون على القيام بهذا الدور الذي تقوم به اللجان (دون أن يشعروا)، غير عابئين بالقصاص لإخوة لهم في القبور، أو بإخوة لهم في السجون، ولا متألمين لشعب تنتهك حرماته، ويتم تجويعه وإذلاله، ولا عابئين بوطن يباع بالجملة و"القطاعي" لكل من هب ودب، ولكل صاحب مطمع.

فنرى هؤلاء -ومنهم شعراء ومحامون ومفكرون وعلماء دين ونواب في البرلمانات ورؤساء أحزاب- يستكثرون على أبناء الوطن أن يقفوا صفا واحدا في قضية مصيرية لا خلاف عليها مثل قضية تيران وصنافير.

فترى الإسلاميين الذين يعملون لصالح الأجهزة الأمنية دون أن يعلموا يقولون (الدم أهم من الأرض.. ومن لم يثر للدماء لا يثور للأرض).

وكأن الثورة صكٌّ في خزانة ملابسهم، يعطونه لمن شاؤوا، ويحجبونه عمن يشاؤون.

وترى الآخرين من التيارات المدنية (الذين يخدمون الأجهزة الأمنية دون أن يعلموا أيضا) يقولون (منذ متى عرف الإخوان قيمة الأرض؟ منذ متى يعرف الإسلاميون معنى الوطن؟ هؤلاء لا يفرقون بين المصري والماليزي، وحلمهم الخلافة ولا ولاء لهم لمصر)!

وكأن الوطنية شهادة لا ينالها إلا من يعجبهم هم، أو كأنهم هم "ترمومتر" الوطنية الذي لا يخيب!

هذه الأصناف من الناس موجودة في حياتنا اليومية، ويزداد بروزهم في مواسم الثورة وأيامها الملتبسة، ونحن بدورنا كمهمومين بمصر.. بمصير مصر.. بثورة مصر.. بالمصالح العليا للأمة المصرية.. بآلام الملايين من بسطاء المصريين.. بالتهديدات الوجودية التي تتهدد بلدنا وأمتنا وثرواتنا ومنطقتنا العربية كلها.. نقول لهؤلاء جميعا (كفاية)!

يكفينا كل هذه المهاترات طوال السنوات الماضية!

لا جديد في كل ما تقولونه.. لقد قلتم ما لديكم عبر سنوات وسنوات.. وما زال الظالم المستبد في مكانه، وما زال أحبابنا في السجون، وما زالت أرضنا وكرامتنا تنتهك مع كل طلعة شمس.. لذلك نريد منكم حلا لتغيير هذا الواقع، أما رواياتكم التاريخية للماضي، وتنظيراتكم وأحقادكم -حتى لو كان في بعضها بعض الحقيقة- فإننا قد حفظناها عن ظهر قلب، وشبعنا منها، ومللنا من ترديدها عاما بعد عام.. قولوا لنا ما هو الحل في هذه المصيبة التي نعيش فيها؟ وكيف ننقذ ما تبقى من هذا البلد؟

كل ما تقولونه هذا العام قيل في أعوام سابقة، لا جديد عندكم، حفظنا مهاتراتكم وخلافاتكم، ادخلوا في الموضوع.. كيف نتخلص مما نحن فيه؟

للأسف الشديد.. لن تجد عند هؤلاء إجابة على مثل هذا السؤال وما يتفرع عنه من أسئلة مصيرية يتعلق بها حياة عشرات الملايين من المصريين والعرب والمسلمين.

سيتفننون في وصف الفخ الذي وقعنا فيه، وفي تفسير كيف وقعنا فيه، ومن المتسبب في وقوعنا فيه، ولكن حين تسألهم عن كيفية الخروج من هذا الفخ.. لن يجيبك أحد، وإذا أجابوك فستجد منهم كلاما لا يؤدي إلى الخروج من الفخ، بل ستجد منهم كلاما وشروطا غير منطقية تؤدي إلى استحالة الخروج منه.

هذه المقالة بإمكانك أن تنشرها في ذكرى أي يوم من الأيام الملتبسة في الثورة المصرية، وستجد أنها مطابقة للحال، وهذا من مساخر أحوالنا السياسية!

غدا.. يوم جديد من الأيام الملتبسة.. غدا هو يوم الإثنين الموافق للثالث من يوليو من عام 2017م، الذكرى الرابعة للانقلاب العسكري بقيادة عبدالفتاح "سيسي".

في هذه الذكرى الرابعة.. نرى مبادرات في داخل مصر وخارجها، ونرى كثيرا من المصريين -كلهم أخطأ في مرحلة ما- يحاولون الإجابة عن سؤال الخروج من الفخ، ويحاولون توحيد معارضة الداخل والخارج من أجل الوقوف في وجه هذه العصابة التي استولت على مصر بقوة السلاح.

هل سيعلو صوت هؤلاء الذين يخدمون "سيسي" في الأيام المُلْتَبِسَة؟ هل سينتصر منهج البكاء على اللبن المسكوب بدلا من منهج محاولة الخروج من الفخ؟

كلي أمل أن تتكون جبهة وطنية مصرية تستطيع أن تمثل المصريين الشرفاء الراغبين في التخلص من الحكم العسكري في مصر، وأن تتجاوز هذه الجبهة أحقاد الماضي، وأن تتمكن من إدارة الخلافات بين مكوناتها، وأن تكون عنوانا للمعارضة المصرية الرشيدة، وأن تصوغ تصورا يشرح للمصريين كيف يقاومون هذا النظام، وكيف يسقطونه، بأقل التكاليف، كيف يتمكنون من بناء دولة القانون في بلد حر مستقل لا يكون على رأسه عميل يبيع الأرض، ويقتل الشباب، ويهلك الحرث والنسل.

أجيبونا.. كيف نخرج من هذا الوضع الذي أصبحنا فيه.. دون تنظيرات تتعلق بالماضي.. لأن كل واحد منا يملك روايته التاريخية لهذا الماضي.

إلى كل هواة الصيد في الماء العكر في الأيام المُلْتَبِسَة.. مللنا من ترديد الكلام نفسه كل عام.. أجيبوا عن سؤال الخروج من الفخ.. إذا كنتم مصريين.. أو وطنيين.. أو إسلاميين..!

عاشت مصر للمصريين وبالمصريين..
 
عبدالرحمن يوسف

موقع إلكتروني: www.arahman.net

بريد إلكتروني: arahman@arahman.net