كتاب عربي 21

المأساة السورية وأزمة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي "PYD"

1300x600
في الوقت الذي أثرت فيه الأزمة السورية بشكل مباشر على تركيا، وعلى البلدان المجاورة لها منذ شهر آذار/ مارس 2011، ما فتئت تحتل موقع الصدارة في الأجندة الأمنية العالمية، حتى بات صعبا على المرء أن يتذكر عدد المبادرات ذات الأبعاد المتعددة والأقطار المتعددة التي استهدفت تقديم حل للأزمة السورية. 

وتراوحت هذه المحاولات المتعددة ما بين خطة عنان إلى أصدقاء سوريا، ومحادثات الأستانا، وغير ذلك من مبادرات الأمم المتحدة. 

وجميعها إما أنها فشلت فشلا ذريعا، أو أصبحت بلا معنى. 

وعلى الرغم من أن هذا الفشل يمكن أن يتم شرح أسبابه بعدد من الطرق، إلا أن هناك تفسيرا بسيطا للحراك الأقوى: ألا هو عدم وجود حل شامل يتجاوز التحركات التكتيكية والحروب التي تشن بالوكالة. 

والأسوأ من ذلك، أنه كلما جرى نقاش الأزمة السورية، لم تكن النقاشات ولا في مرة من المرات محصورة في سوريا وحدها. 

ولم يتغير الأمر على الرغم من استخدام الأسلحة الكيماوية كجريمة حرب، أو الإبادة الجماعية لما يزيد عن نصف مليون إنسان على أيدي قوات نظام الأسد ومن يسانده. 

لقد تم استبدال الرؤى الجيوسياسية بالتحركات التكتيكية، واستبدلت مبادرات الحلول السياسية بالمخاوف الشعبوية. 

وبظهور منظمة مفيدة جدا مثل "داعش"، تم الإعلان رسميا في سوريا عن انتحار الجغرافيا السياسية. 

و"داعش" بما تمثله من عدو مفيد ومريح، حلت محل المأساة السورية والأزمة التي تعصف في منطقة الشرق الأوسط. 

وبات "قتال داعش" سوقا حرة يمكن لمن أراد متى ما أراد أن يلجها بحرية، وأن يستخدمها وسيلة للتستر على كل أنواع الجرائم والأعمال الوحشية. 

خطأ استخدام "بي واي دي" ضد "داعش"

روسيا، والولايات المتحدة الأمريكية، وإيران، ونظام الأسد، وبلدان الخليج، وفرنسا، وجيران سوريا، وكندا، والاتحاد الأوروبي وأستراليا.. كل هذه الدول عجزت على مدى أربعة أعوام من القتال عن تطهير المناطق التي يسيطر عليها تنظيم الدولة (داعش) من عناصره. 

إلا أن تركيا منفردة تمكنت من إلحاق الهزيمة بـ"داعش" في كل المواقع الذي حارب فيه التنظيم خلال أربعة شهور. 

أما التحالف الدولي الذي تشارك فيه كل هذه الدول مجتمعة، فلم يتمكن على عظمته من إنجاز المهمة وتصفية داعش. 

كيف إذن تمكنت داعش من الاستمرار على قيد الحياة، رغم أنها جمعت ما بين إيران وإسرائيل وما بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وما بين دول الخليج والعراق، وكأنها بذلك تحيي نظرية "نهاية التاريخ" وتعيد لها الاعتبار من جديد؟ 

كيف يمكن لتحالف غير مسبوق في تاريخ القرن العشرين أن يفشل في إلحاق الهزيمة بتنظيم داعش؟ 

لا يوجد سوى إجابتين لا ثالث لهما: إما أن داعش أقوى عسكريا من التحالف الدولي المذكور، أو أن هناك مشكلة في الطريقة التي يقاتل بها هذا التحالف. 

العنصر المعجزة في هذا التحالف كان حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي PYD، وهو عبارة عن منظمة ماركسية تمثل مفارقة تاريخية نشأت في أواخر عام 2011. 

وهي الفترة ذاتها التي نشأ فيها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). 

وهي الفرع السوري للمنظمة الإرهابية المعروفة باسم حزب العمال الكردستاني، التي تسببت في مقتل عشرات الآلاف من الناس داخل تركيا. 

وعلى الرغم من أن "بي واي دي" تعترف بأنها امتداد لحزب العمال الكردستاني، الذي تعتبره الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول منظمة إرهابية، إلا أن العاصمة الوحيدة التي تصر على نفي أن يكون تنظيم "بي واي دي" هو نفسه حزب العمال الكردستاني هي واشنطن. 

بمعنى آخر، تقول واشنطن للعالم إن عليهم ألا يعتبروا منظمة مسجلة في قائمة "المنظمات الإرهابية" الرسمية لديها منظمة إرهابية. 

بل والأسوأ من ذلك، هو الزعم بطريقة أو بأخرى أن "بي واي دي" تمثل كل السكان الأكراد داخل سوريا، ويتم الإصرار على أن الأكراد يساوون "بي واي دي". 

وكأنما أصيبت الأعين بالعمى والآذان بالصم عن رؤية أو سماع تداعيات استراتيجية العمل مع "بي واي دي"، وهي الاستراتيجية التي تحولها إلى ما يشبه الأداة، وتقوم على خطوات حدسية تخمينية وتكتيكية لا أكثر. 

ويستمر اللجوء إلى استراتيجية العمل مع "بي واي دي" من الإدارة الأمريكية الجديدة، رغم أن هذه الاستراتيجية ما هي إلا واحدة من عواقب عدم قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على تطوير سياسة خاصة في سوريا. 

كان أحد أهم الأعذار التي بررت عدم اتخاذ إجراء تجاه الأزمة السورية في عامي 2012 و 2013، سؤال "ماذا سيحدث في سوريا فيما لو رحل الأسد؟". 

وصراحة، إن مثل هذا السؤال لم يكن طرحه خطأ من حيث المبدأ، إلا أن الأمر تجاوز مجرد الفضول أو التعبير عن القلق، وتحول إلى مبرر لعدم التدخل في الأزمة لوقف تفاقم المأساة الإنسانية. 

في الوقت ذاته، رأينا الناس ذاتهم الذين يطرحون هذا السؤال يتجنبون اليوم طرح سؤال مشابه حول سوريا ما بعد داعش، وهو السؤال الذي ينص على ما يلي: "ماذا سيحدث فيما لو تمت تصفية تنظيم داعش والقضاء عليه؟". 

ما من شك في أن الإجابة على ذلك باستخدام "بي واي دي" إنما تؤكد حالة عميقة من الارتباك والحيرة. 

فهم لا يريدون التفكير ولو لثانية واحدة بذلك الذي ستعنيه "بي واي دي" بالنسبة للأكراد وللعرب وللتركمان، فيما لو تم تطهير الرقة وسوريا من داعش. 

ليست لديهم إجابة تجاه ما الذي ستفعله القوى الإقليمية الفاعلة، وكذلك إقليم كردستان العراقي في "بي واي دي" في سيناريو ما بعد داعش. 

وذلك أن محاربة منظمة إرهابية باستخدام منظمة إرهابية أخرى لا يمثل سياسة جادة على المدى المتوسط أو على المدى البعيد. 

إن الإصرار على استخدام "بي واي دي" لا يستند إلى نظرة جيوسياسية، أي على استراتيجية أمنية جادة للتعامل مع سوريا أو مع الشرق الأوسط تنسجم مع السياسة المطلوبة على المدى المتوسط والبعيد. 

ولذلك، فنحن بصدد وضع يتشكل فقط وبشكل كامل من تكتيكات عسكرية. 

وحالنا في ذلك كمن يقول: إذا كان كل ما لديك هو مطرقة، فإن كل شيء آخر يبدو على شكل مسامير، وبذلك تستمر الحرب ضد داعش دونما أي اعتبار للسياسة الإقليمية المحتملة والتداعيات الأمنية للمقاربة العسكرية الحالية. 

ويتم بكل سهولة تناسي حقيقة أن النتيجة المحتملة لذلك هي كارثة أخرى، كتلك التي شهدناها في العراق. 

ولن نكون مجانبين للحقيقة والواقع إذا قلنا إن العمى الذي تجلى قبل خمسة عشر عاما في القتال ضد القاعدة يتم تكراره ثانية اليوم. 

وذلك أن المقاربة العسكرية المتخلفة التي انتهجت ضد القاعدة هي التي نجمت عنها الاهتزازات القوية والتأثيرات التي تسربت إلى أنحاء المنطقة وإلى ما هو أبعد منها.

واليوم، يتم من خلال مقاربة عسكرية قحة مشابهة تجاهل السياسات المعقدة للنضال والعواقب المحتملة على المستوى الجيوسياسي. 

إن تركيا واحدة من البلدان التي دفعت ثمنا باهظا من الناحية الاجتماعية، وكذلك من النواحي المتعلقة بالأمن والإرهاب والاقتصاد، بسبب الأزمة السورية. 

ونحن في غنى عن القول إن تسليح منظمة ماركسية إرهابية ذات نزعات عرقية موجهة ضد تركيا ستكون له عواقب جسيمة على مستوى المنطقة ككل. 

ولا ريب أن الشيء الوحيد الذي سينجم عن دعم منظمة إرهابية متهمة بتنفيذ هجمات انتحارية في المدن التركية والتعامل معها كما لو كانت كيانا مشروعا هو المزيد من الفوضى. 

وهذا، على الرغم من حقيقة أن تركيا ما فتئت تقاتل بنجاح ضد تنظيم داعش داخل سوريا منذ أشهر عدة، وأعربت عن تأييدها واستعدادها للمشاركة في تحرير الرقة. 

وفي ضوء هذه التقديرات، فإن من حق تركيا المشروع، بل يعتبر ذلك مما يشكل أهمية كبرى للأمن والاستقرار في المنطقة، محاربة جميع المنظمات الإرهابية التي تشكل تهديدا للأمن القومي التركي داخل سوريا. 

عندما يكون الشمعدان الأمني والسياسي بهذا الوضوح وبهذا الجلاء، فإن من شأن مساعدة منظمة إرهابية تعمل ضد تركيا أن تنجم عنها توترات في العلاقة ما بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، مع احتمال أن يفضي ذلك فيما بعد إلى تصدعات خطيرة. 

كما أن تحويل "بي واي دي" إلى لاعب أشبه بالرياضيين الذين يستخدمون المنشطات يحمل في طياته عواقب في غاية الخطورة على سوريا والعراق، وكذلك على إيران. 

من الواضح أن الاستراتيجية العسكرية المتبعة في سوريا تخلو من أي استيعاب للأوضاع داخل سوريا، بل لمجمل الأوضاع في الشرق الأوسط ككل. 

ولذلك، فإن من المستبعد تماما أن تفلح اليوم الاستراتيجية العسكرية التي ولدت من حالة من اليأس والإحباط في عهد إدارة الرئيس أوباما، خاصة بعد كل ما طرأ على الأزمة السورية من تحولات وما شهدته من تطورات. 

ينتاب الفضول جميع المراقبين تجاه ما الذي يمكن أن تفعله تركيا فيما لو سُلمت منظمة "بي واي دي" أسلحة ثقيلة؟ 

ولكن تركيا ليست في حاجة لأن تجيب على هذا السؤال تارة أخرى. 

فتركيا ستحارب الإرهاب بعد حصول "بي واي دي"، بالتالي حزب العمال الكردستاني، على الأسلحة الثقيلة كما حاربته من قبل. 

والسؤال الحقيقي الذي يبرز أمامنا يتعلق بما إذا كان "الوهم العقلي بإمكانية محاربة الإرهاب باستخدام إرهابيين آخرين" من شأنه أن يقدم لنا ما يشبه الحل. 

بالطبع، قد تبدو مثل هذه الأسئلة بلا معنى وبلا قيمة بالنسبة لمن يعتنقون المقاربة العسكرية، إلا أن عدم الإجابة على هذه الأسئلة المصيرية في سوريا، حيث تعيث المنظمات الإرهابية في الأرض فسادا، قد تفضي في نهاية المطاف إلى استنساخ وإعادة إنتاج ظاهرة داعش في سوريا، وفيما بعد سوريا. 

ولئن كانت فكرة إنقاذ الرقة بوصفها مركزا تاريخيا للسنة، ومدينة تعرف بتدين سكانها العرب على يد منظمة إرهابية ماركسية موغلة في العلمانية، ما يمكن اعتباره سيناريو متواضع لفيلم سينمائي تنتجه هوليوود، إلا أن تداعياتها على الأرض ستتمثل في الأغلب في مفاقمة الأزمة الحالية. 

طالما لازال ثمة وقت، فإنه يتوجب التخلي عن الخطة المعتمدة حاليا، نظرا لأنها بلا استراتيجية وبلا منطق. 

وما من شك في أن الحكمة تستدعي اللجوء إلى خيار التراجع عن المقاربة العسكرية التي من شأنها، حتى لو لم تعبر تركيا عن معارضتها لها، أن تسبب أضراراً جسيمة غير مقصودة وتداعيات خطيرة على نطاق واسع. 

علينا أن نتذكر أن كل خطوة تم اتخاذها حتى الآن في سوريا وتجاهل أصحابها العواقب المحتملة سياسيا وإقليميا، إنما أفضت إلى مزيد من الفوضى ومزيد من الإرهاب. 

لا شيء ينجم عن التصادم بين المنظمات الإرهابية سوى المزيد من العنف والفوضى، وليس المزيد من السلام أو الاستقرار.