كتاب عربي 21

مايو فرنسي جديد!

1300x600
في شهر مايو من العام 1968، شهدت فرنسا أكبر إضراب عام في تاريخها بدأه طلبة الجامعات للمطالبة بتوسيع هامش الحريات، بعد اعتقال زملاء لهم على إثر تظاهرات منددة بالحرب بفيتنام، في مواجهة واحد من أعظم جنرالات فرنسا شارل ديغول، بطل التحرير من النازية. كانت حركة الطلاب تحمل اسم حركة 22 مارس، انضم إليها المثقفون والعمال بعدهم، فكان الإضراب العام يوم 14 مايو الذي يصادف بالمناسبة حفل التسليم الرسمي للسلطة إلى الرئيس الفرنسي الجديد مانويل ماكرون نصف قرن بعدها.

يبدو الربط بين أحداث مايو 1968 التي أدت إلى زعزعة نظام الجمهورية الرابعة بفرنسا ما مكن من المرور للجمهورية الخامسة، وانتخاب ماكرون، الشاب ذو الأربعين عاما، منطقيا إلى حد كبير وإن اختلفت الظروف ووسائل التغيير المجتمعي. وصول ماكرون لسدة الحكم وما تلاه من "زلزال" حقيقي لا تزال تداعياته وارتداداته تصيب عصب النخبة الحزبية والسياسية بالبلاد، أشبه ما يكون ب"ثورة شبابية" على حكم عتيق ونخبة سياسية هرمة عجزت عن تقديم البدائل وبث الحياة في شرايين الجمهورية الخامسة السائرة في طريق الانسداد.

كان الإعلان الرسمي على انتخاب مانويل ماكرون بثلثي الأصوات المعبر عنها، بداية تحركات واصطفافات وتحالفات جديدة بالمشهد السياسي الفرنسي. فقد سارع ماكرون إلى الاستقالة من حركته "إلى الأمام" التي تحولت حزبا سياسيا باسم "الجمهورية إلى الأمام" بالتوازي مع إعلانه فتح الأبواب أمام استقبال طلبات الترشح للانتخابات التشريعية القادمة بحثا عن ضمان أغلبية رئاسية تساعد الرئيس الجديد على تنفيذ التزامات برنامجه الانتخابي. ولأن حزب ماكرون "ثائر" على طرق التدبير التقليدية للعمل الحزبي، فقد وضع نصب أعينه تقديم وجوه جديدة من الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني بنسبة النصف ووجوه سياسية مجربة مقابلها شريطة الانضمام لصفوف الحزب الناشئ، وأتت المفاجأة الأولى من رئيس الوزراء الاشتراكي السابق "ايمانويل فالس" بإعلانه النية في الانضواء تحت لواء مشروع ماكرون. انتقال فالس من الحزب الاشتراكي لحركة وزيره السابق في الاقتصاد هزة سياسية حقيقية بفرنسا ستعجل ب"موت" الحزب الاشتراكي بالرغم من مقاومة الأخير لحقيقة الصفعة التي تلقاها قبل أيام في انتخابات الرئاسة.

اليمين الفرنسي، وإن ظهر أكثر تماسكا حتى الآن، لا يخرج عن ظاهرة إغراء عرض الرئيس ماكرون خصوصا مع تداعيات الحملة الانتخابية الرئاسية لحزب الجمهوريين وما تسبب فيه الصراع الشخصي لديناصورات الحزب من أزمة ثقة في القيادة وإحباط للقواعد انتهى بالخروج من دائرة التنافس الرئاسي من الدور الأول في سابقة تاريخية. هكذا تعالت أصوات كثيرين داعية للتريث في التعامل مع حقيقة وجود رئيس شاب بلا سند حزبي مع الاصرار على تقديم وجه يافع، ممثلا في فرنسوا باروان، لقيادة حملة التشريعيات ركوبا لموجة الرئيس الشاب.

المفاجأة المدوية كانت إعلان ماريون لوبن انسحابها من الحياة السياسية حتى حين. كانت رسالة الاستقالة من كل مهامها السياسية والتمثيلية حدثا غير منتظر بالنظر إلى ما تتمتع به من شعبية لدى قواعد الجبهة الوطنية بل لدى قطاع أكثر اتساعا من الشباب الفرنسي وهي التي لم تتجاوز السابعة والعشرين ربيعا. ماريون، كانت الوجه الشاب لحزب يميني "منغلق" بالرغم من كل الاختلافات التي لم تكن تخفيها عن طريقة التدبير الحزبي لخالتها مارين. الجد جان ماري، المقرب من الحفيدة، اعتبر ما أقدمت عليه ماريون  نوعا من  "الهروب من المعركة" وهو ما يؤشر على حجم الضرر الذي قد يلحق "الحزب" بسبب الاستقالة تلك. اختلفت التحليلات في أسباب الخطوة المفاجئة من قائل أنها مؤشر على رفض الدخول في الصراعات المنتظرة داخل الجبهة الوطنية المقبلة على التوسع والانفتاح على حساسيات أخرى خوفا من أن تستخدم ماريون في سبيل إضعاف موقع خالتها، وقائل أنها مجرد بداية لما سيعرفه "الحزب" اليميني من تصدعات. والأكيد أن تجربة ماكرون صارت ملهمة للطامحين الشباب، وليست ماريون أقلهم شأنا باعتبار ما راكمته من تجربة قد تحتاج معها للابتعاد عن "الطائفة" العائلية والعودة بخطاب "جديد" ستسعى للتأصيل له على ضوء ما ستنتجه الديناميكية السياسية التي بدأت في السابع من مايو.

الوضعية الاقتصادية والسياسية لفرنسا اليوم تحيل على ما عاشته فرنسا نهاية الستينيات من ركود اقتصادي، واحتقان سياسي ومجتمعي بدعوى الحفاظ على الأمن وعلى مبادئ الجمهورية،  وانحسار في التأثير على المستوى الدولي بعد توالي "هزائمها" بالمستعمرات السابقة، وكانت الحاجة ملحة للتغيير ولو على حساب شخصية من قيمة الجنرال ديغول، الذي فوجئ بتدحرج كتلة الغضب الشعبي ما دفعه لل"هرب" إلى قاعدة عسكرية فرنسية بألمانيا لساعات بحثا عن دعم الجيش الفرنسي خوفا من انحيازه للشارع ومطالبه، ولولا "خيانات" الأحزاب اليسارية للحركة الطلابية لاتخذت الأحداث منحى أكثر ثورية وتجذرا.

لم تعد الظروف الدولية مساعدة على إنجاح الحركات الثورية، لكن أحداث مايو 1968 ظلت ملهمة للحركات الشبابية بفرنسا والعالم. الفارق أن الغرب طور أدواته الثورية لتحقيق أهدافه في التغيير مما مكن حركاته الشبابية من إنجاز اختراقات كبرى في إسبانيا وإيطاليا واليونان وغيرها من الدول. فيما بقي الشباب العربي أسير ما أنتجه معاصرو أحداث 68 من تصورات وأدوات عمل رغم كل التغييرات التي عرفها العالم وإن لم تؤثر كثيرا في بنية الدولة العربية وعقلية "نخبها" وحكامها.

في فرنسا نهاية الستينيات، وعندما استولى الطلبة على جامعة السوربون طلب شارل ديغول من رئيس وزارئه جورج بومبيدو "سحق التحرك وتنظيف الجامعة" لكن الأخير أبدى رفضه للمطلب، وهو نفس الموقف الذي عبر عنه رجال الأمن باعتبار أن المواجهة تلقي عليهم ب"مسؤولية ضميرية". وفي نهايات 2010 وبدايات 2011، تحرك الشارع العربي بمطالبات لا تختلف كثيرا عن مطالب شباب مايو الفرنسيين، فكان رد "الدولة" العربية قمعا واعتقالات وقتلا على أيدي أجهزة الأمن والجيش بمباركة من الحكومات. والنتيجة "جنرالات" في الحكم اعتبر أحد "مفكري" المحروسة أحدهم "أعظم جنرال في التاريخ بعد ايزنهاور".. شارل ديغول لا يمثل شيئا أمام مشير لم يشهد له التاريخ بحرب غير حربه على شعب آمن بالشرعية فكيفت أجهزته الأمر "إرهابا". وبالأمس فقط، لوح الرئيس التونسي التسعيني بورقة نزول الجيش في مواجهة التحركات الجماهيرية التي فشل وحكومته في الاستجابة لها وإخماد فتيلها.

ولمكر التاريخ، عرف مغرب السبعينيات ميلاد حركتين ثوريتين حملتا اسمي إلى الامام  و23 مارس، في تشابه غريب مع الحالة الفرنسية، لكنهما واجهتا قمعا وتنكيلا أودى بحياة كثير من منتسبيهما وزج بالبقية في السجون والمعتقلات قبل أن تتغير المبادئ وتتبدل الولاءات ونرى بعضا من هؤلاء مسؤولين في إدارة الشأن العام بنفس أدوات القمع والإجهاز على على الحقوق والمكتسبات.

وفي شهر مايو 2017 سيسجل التاريخ مشهد انتخابات فرنسية أعادت لفرنسا بعضا من هيبتها ومكانتها ك"منارة" للتعايش والحريات، وانتخابات في الجزائر لم تفعل غير كشف عورات النظام العربي الرسمي والشعبي، والفارق بين الاثنتين ثلاثة أيام لا رابع لها.