شهد القرن الماضي ولادة زعامات عربية عدة من رحم إنشاء الدولة العربية الحديثة، في مرحلة ما بعد التحرر من الاستعمار العسكري.
وكان كل منهم يحمل لقب المنقذ والملهم والمخلص. وكان السلاح السياسي والفكري الذي يشهر في وجه المعارضين، أن هؤلاء هم الآباء المؤسسون لعهد جديد لا تسري عليهم قوانين تداول السلطة أو المراقبة والمحاسبة.
وكان القاسم المشترك بين الجيل الأول من السلطويين العرب هو تنحية الحريات الفردية جانبا، وتأجيل الاستحقاقات الديموقراطية لحساب التأسيس للعهد الجديد وبناء الأمجاد.
لكن كان معظم هؤلاء يتمتع بثقافة وإطلاع عال بالإضافة لتجربة نضالية أو سياسية قبل الوصول للسلطة. الأمر الذي جعل هناك بعض المسطحات الخضراء في صحراء تجربة الحكم السلطوي، ما ساعد على تكوين أسس وبنية تحتية لهذه الدول لا تزال قائمة عليها حتى الآن.
جمال عبد الناصر على سبيل المثال، كان قارئا ومطلعا. وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع سياساته، لا ننكر أن هناك طبقة وسطى ازدهرت في عهده. وكان هناك سيادة لمفاهيم العدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني وعدم الانحياز حتى لو لم تطبق بشكل فعال على أرض الواقع.
أما الحبيب بورقيبة في تونس، فلم يكن على وفاق مع عبد الناصر وتجربته، لكنه كان هو الآخر قارئا مثقفا وله خلفية نضالية معروفة في الحزب الدستوري الحر، وتم اعتقاله مرات عدة.
وأقام بنية تحتية مهمة في تونس في مجالات مثل الصحة والتعليم. وغني عن الذكر تجربة العراق في الصناعة والازدهار في عهد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، قبل انحسارها تدريجا بعد غزو الكويت.
وربما ساهم التكوين السياسي والثقافي للجيل الأول من السلطويين العرب في تدعيم أركان حكمهم لفترة طويلة من الزمن، رغم القمع الشديد الذي مارسوه بحق معارضيهم.
بالإضافة لرؤيتهم لعملية التحديث والتي طبقوها بالحديد والنار، قبل أن يرغمهم القدر على ترك السلطة. إذ لم يحدث أي انتقال سلمي للسلطة في عهد هؤلاء الذين انتهى عهدهم إما بالوفاة أو الاغتيال أو الاحتلال الأجنبي أو الانقلاب..إلخ
لدينا الآن جيل جديد من السلطويين العرب الذين يقدمون أنفسهم بديلا ضروريا في مرحلة ما بعد الثورات العربية.
وأهم مسوغات بقائهم في السلطة، أنهم زعماء الضرورة والمنقذين في تماه باهت جدا مع تجربة الجيل الأول، بل إن بعضهم يتحدث صراحة عن اقتدائهم بتجربة هذا الجيل سواء السادات في
مصر أو القذافي في
ليبيا.
ولم تستنسخ تجربتهم الجديدة من العهد القديم سوى شدة القمع ومصادرة الحريات. ولا يقدم هؤلاء أي تصورات، ولو نظرية، لشكل الدولة الذي يسعون إليه ونوعية التحديث الذي يراهنون عليه، ويريدون من الناس أن تضحي بحرياتها في سبيل تحقيقه.
لا يستطيع عبد الفتاح
السيسي في مصر مثلا أن يصيغ بعض الجمل الفكرية والسياسية المتماسكة في أي خطاب له.
وكلما ذكر أمرا دينيا أو واقعة تاريخية يتورط في فضح جهله بهذه المسائل أكثر وأكثر.
الأمر ذاته ينطبق على خليفة
حفتر في ليبيا، وربما على جنرالات آخرين في الظل، يستعدون للقفز على مقاعد السلطة في بلدان أخرى. أما عن الوعود الساذجة في التنمية والرخاء فحدث ولا حرج.
يشير هذا الأمر إلى تكهنات عدة تتعلق بمصير هذه الأنظمة، وهي أنها غير قابلة للاستمرار بهذه الطريقة لأسباب موضوعية تتعلق ببنيتها الجديدة، وشخصية تتعلق بتكوين هؤلاء الزعماء الجدد.
ولا يتعلق الأمر هنا بقوة التيارات المعارضة بقدر ما يتعلق بفقدان المقومات الأساسية لاستمرار هذه النظم. فقد يستطيع أي قاطع طريق أن يختطف حافلة بما فيها من ركاب، حين يقتل السائق ويهدد الناس. لكنه لا يستطيع أن يستمر في السير من دون وقود، والأهم من ذلك من دون تحديد وجهة وبوصلة الحركة.