كتاب عربي 21

المدى الذي يمكن أن يذهب إليه التوافق التركي-الروسي

بشير نافع
1300x600
1300x600
في التاسع من آب/ أغسطس 2016، التقى الرئيس التركي، طيب رجب أردوغان، بنظيره الروسي، فلاديمير بوتين، في مدينة "سان بيتسبرغ" الروسية. ولأن تركيا كانت لم تزل تعيش أجواء المواجهة مع تنظيم فتح الله غولن، المتهم بالمحاولة الفاشلة في 15 تموز/يوليو، فالمؤكد أن قرار الذهاب إلى "سان بيتسبرغ" اتخذ عن سابق تصميم وتصور.

كانت المصالحة التركية ـ الروسية، بعد القطيعة التي سببها إسقاط الطائرة الروسية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، قد أنجزت في نهاية حزيران/ يونيو، وجاء لقاء "سان بيتسبرغ" ليعزز من مناخ التقارب المتجدد بين الدولتين؛ أو هذا، على الأقل، ما أوحت به تصريحات أردوغان وبوتين. ولكن الأحداث المتتابعة توحي بأن قمة "سان بيتسبرغ" أسست لتوافق أكبر بين تركيا وروسيا. السؤال الآن هو المدى الذي يمكن أن يصل إليه هذا التوافق.

شهدت علاقات تركيا بحليفها الأمريكي التقليدي، وبالاتحاد الأوروبي، تدهوراً ملموساً خلال 2016. بعد ما يشبه شهر العسل الطويل الذي عاشته علاقات حكومة أردوغان مع واشنطن خلال ولاية أوباما الأولى، بدأت الشكوك والخلافات في رسم ملامح مختلفة لعلاقات الدولتين منذ 2013. رفضت إدارة أوباما المقترح التركي بإنشاء منطقة آمنة في سوريا، وتراجعت عن اتخاذ موقف لائق من استخدام نظام الأسد للسلاح الكيمياوي ضد شعبه. وبالرغم من أن واشنطن أظهرت معارضة للانقلاب في مصر، برزت شكوك في أنقرة حول مدى معرفة واشنطن المسبقة بقرار الانقلاب.

 وما إن أخذت سيطرة داعش في التوسع في العراق وسوريا، حتى بدأت أنقرة وواشنطن في تبادل اللوم. اتهم الأمريكيون الأتراك بأنهم لا يحكمون السيطرة على حدودهم مع سوريا، بينما رد الأتراك بأن السياسة الأمريكية العاجزة في سوريا هي التي أدت إلى إفساح المجال لتوسع داعش المطرد.

ومنذ عملية عين العرب/ كوباني، أسس الأمريكيون لعلاقة تحالف مع فرع حزب العمال الكردستاني في سوريا، اعتبرتها أنقرة تهديداً مباشراً لأمنها القومي. في نهاية أيلول/ سبتمبر، أصبحت روسيا طرفاً مباشراً في الأزمة السورية، مما أدى إلى إحداث خلل فادح في توازن القوى في الساحة السورية. ولأن الأمريكيين أبدوا استعداداً للتنسيق مع الروس، وأحجموا عن تعهد دور معادل للدور الروسي، تعززت قناعات الأتراك بأن إدارة أوباما تخلت كلية عن الشعب السوري.

لم يتوفر لدى المسئولين الأتراك ما يمكن أن يشير إلى دور أمريكي أو أوروبي في المحاولة الانقلابية، ولكن ردود الفعل المبكرة في واشنطن وعدد من العواصم الأوروبية لم تبعث على الاطمئنان في أنقرة. الحقيقة، أن بعضاً من المسئولين الأتراك تصور أن من المستحيل أن لا تكون أجهزة الاستخبارات الأمريكية على معرفة مسبقة بالمحاولة الانقلابية، ليس فقط لوجود فتح الله غولن في بنسلفانيا، ولكن أيضاً للعلاقات الوثيقة التي تربط جنرالات الجيش التركي بزملائهم الأمريكيين. إضافة إلى ذلك، لم تكن تصريحات وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، في ساعات المحاولة الانقلابية الأولى، قاطعة في شجبها للانقلاب على حكومة حليفة منتخبة. ولم تقل خيبة أمل أنقرة في الموقف الأوروبي. فقد تأخر أغلب دول أوروبا سيما ألمانيا، في شجب المحاولة الانقلابية وتأييد الحكومة التركية الشرعية. وعندما بدأت أنقرة في اتخاذ إجراءات ضد تنظيم غولن، داخل أجهزة الدولة وخارجها، سارعت الحكومات الأوروبية المختلفة إلى الإعراب عن قلقها من خطوات التطهير التركية.

خلف ذلك كله، كانت مدن أوروبية رئيسية، وليس فقط المدن الأمريكية، تتحول إلى ملجأ آمن لعشرات رجال الأعمال وقيادات تنظيم غولن. كما أن دولة أوروبية واحدة، وبالرغم من التساؤلات التركية المستمرة، لم تتخذ ولو إجراء واحداً ضد ناشطي حزب العمال الكردستاني، الذين جعلوا من أوروبا الغربية ميداناً رئيسياً لجمع الأموال وتجنيد المؤيدين، ومقراً للمؤسسات الإعلامية. 

في صيف 2016، بكلمة أخرى، قدرت تركيا أنها تواجه خللاً فادحاً في ميزان القوى المحيط بها، سيما في ساحة الأزمة السورية، التي تحولت إلى مركز للتدافعات الإقليمية والدولية؛ وأنها لم تعد تستطيع الاطمئنان لحلفائها الغربيين، لا في الولايات المتحدة ولا أوروبا. وهذا ما ولد التحرك التركي نحو روسيا، التي برزت باعتبارها القوة المرجحة في الأزمة السورية. والمؤكد، أن القرار التركي بالانفتاح على روسيا لم يأت من جانب واحد، فلأسباب عديدة، ليس أقلها إدراكه بأن لا حل عسكرياً للأزمة السورية، كان بوتين، أيضاً، يرغب في تعزيز العلاقات مع تركيا.

اتفق الطرفان، التركي والروسي، في لقاء "سان بيتسبرغ" على الإسراع في تطبيع العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين، التي تضررت بصورة بالغة بعد أزمة إسقاط الطائرة الروسية. ولكن الأهم، كان التحرك التركي العسكري غير المسبوق، في 24 آب/ أغسطس 2016، في منطقة الشريط السوري الحدودي، لإخلاء المنطقة من قوات داعش ومنع قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني، من مد نطاق سيطرته إلى غرب الفرات. العملية التي أطلق عليها اسم (درع الفرات)، وشملت توفير دعم عسكري تركي ملموس للجيش السوري الحر، ما كان يمكن أن تتحقق بدون موافقة روسية. خلال الشهور التالية، وبالرغم من أن توجه عملية درع الفرات نحو مدينة الباب، في العمق السوري، تتطلب توافقاً تركياً ـ روسياً جديداً، وفر سلاح الجو الروسي دعماً مباشراً للقوات التركية ووحدات الجيش الحر التي تحاصر مدينة الباب، لمرتين على الأقل. في المقابل، لم تخبر أنقرة الحلفاء الأمريكيين بعملية درع الفرات إلا قبل انطلاقها بساعات؛ وتعامل الأمريكيون مع العملية باعتبارها خارج نطاق التحالف ضد الإرهاب، بالرغم من أن داعش هدف رئيس للعملية.

في 18 كانون أول/ ديسمبر، توصل العسكريون الروس إلى اتفاق مع مسلحي المعارضة السورية إلى اتفاق حول إخلاء حلب الشرقية من المدنيين والعسكريين المحاصرين. وبالرغم من أن انتقادات حادة وجهت لاتفاق حلب، الذي اعتبر حلقة أخرى في عملية التطهير الطائفي في سوريا، فالمؤكد أن الاتفاق لم يكن ممكناً بدون دعم وتأييد تركيين. بعد أيام قليلة، كانت أنقرة تستضيف مباحثات غير مسبوقة بين مسئولين روس وممثلين عن قطاع واسع من التنظيمات السورية المسلحة، انتهت بالتوصل إلى ما عرف باتفاق أنقرة لوقف إطلاق النار. في 23 ـ 24 كانون ثاني/ يناير، عقد لقاء الآستانة، الذي هدف إلى تعزيز حالة وقف إطلاق النار وإيجاد آلية لمراقبة الاختراقات. وبالرغم من أن اللقاء ضم ممثلين عن نظام دمشق، وعن تنظيمات المعارضة المسلحة، بوجود روسي وإيراني وتركي، كان واضحاً أن الآستانة ما كان يمكن أن يعقد بدون تفاهم تركي ـ روسي.

لم يكن اجتماع الآستانة أصلاً فكرة تركية، بل مشروعاً روسياً، أراده بوتين لتوكيد دور الوسيط وصانع الحلول والسلم. وربما كان الروس يرغبون، قبل عقد اللقاء، أن يتحول الآستانة إلى مسار بديل عن مسار جنيف. ولكن لا الأتراك ولا الروس كانوا يعرفون حقيقة موقف الإدارة الأمريكية الجديدة، ولا ما يمكن أن يكون عليه رد الفعل الأمريكي على إطلاق مسار تسوية للأزمة على أساس تفاهم روسي ـ تركي. في النهاية، اتفقت الأطراف على أن يقتصر لقاء الآستانة على تثبيت وقف إطلاق النار، وأن تعود المباحثات إلى جنيف لفتح الملفات السياسية المستعصية، حيث ستتوفر ليس مظلة دولية وحسب، بل وستتواجد كافة الأطراف المعنية، وفي مقدمتها الأمريكيون. بهذا، يبدو لقاء الآستانة وكأنه المحطة الأخيرة للتوافق التركي ـ الروسي حول سوريا، الذي أطلق في اجتماع "سان بيتسبرغ".
التعليقات (0)