قضايا وآراء

في وداع صادق جلال العظم

نبيل البكيري
1300x600
1300x600
مثل هذا العام محطة رحيل كوكبة من كبار رواد الفكر والجدل الفكري الذي أحدثوه في حياتهم على أكثر من جبهة على امتداد عقود القرن الماضي، من الدكتور حسن الترابي مرورا بجمال البنا والدكتور جرج طرابيشي وطه جابر العلواني وصولا حتى صادق جلال العظم، الذي غادرنا بالأمس في منفاه الاختياري برلين وفي أحد مستشفياتها تحديدا.

مثل صادق جلال العظم واحد من رواد اليسار العربي الذي كان بمثابة موضة الفكر والأفكار والتحرر منذ النصف الثاني للقرن الماضي وحتى انهيار المنظومة الاشتراكية ممثلة بالاتحاد السوفيتي في بداية تسعينات القرن الماضي، لكن ما ميز التجربة اليسارية للعظم، القادم من أسرة ارستقراطية وعلمانية أيضا، هو ديناميكيته الفكرية على أكثر من صعيد وموقف ومكان، حط فيه رحاله منذ قدومه في ستينات القرن الماضي عائدا من الغرب الأمريكي إلى الجامعة الأمريكية ببيروت التي عمل فيها أستاذا لكرسي الفلسفة لفترة من الزمن، ورفض بعد ذلك استمراره بالتدريس فيها لمواقفه اليسارية المتناقضة مع توجهات الجامعة التبشيرية اللبرالية، إلى خلافه الحاد مع رفاقه في جبهة التحرير الفلسطينية التي عمل معهم في تأسيس مؤسسة الدراسات الفلسطينية على خلفية كتابه النقد الذاتي فيما بعد الهزيمة.

بيد أن قصة العظم مع المعارك الفكرية بدأت مع أهم كتبه على الإطلاق وهو نقد الفكر الديني، الذي حُكم بسببه ولكن المحكمة عادت وبرأته بعد ذلك، ويعد كتاب نقد الفكر الديني بمثابة معركته الرئيسية مع المؤسسات الدينية الرسمية والحركات الإسلامية، التي كان يرى العظم أنها تتخذ من الإسلام شعارا لتضليل الجماهير وتطويعها لأهدافها الخاصة، لكن هذا المنطق النقدي مما أسماه العظم بالإسلام السياسي "البزنسي"، تغير كثيرا مع صعود نجم التجربة التركية لحزب العدالة والتنمية.

تلك التجربة التي يعتبرها العظم نموذجا يستحق الدراسة والتأمل جيدا، وأن هذا النموذج سيؤثر على توجهات كثير من الجماعات والتيارات الإسلامية، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين التي رأى أنها تنحو كثيرا منذ ما قبل الربيع العربي نحو الإصلاح والابتعاد عن الإيديولوجيا نحو السياسة بحسب الغنوشي، وهو ما تمثل ببرنامج المراجعات التي أعلنتها جماعة إخوان مصر في عام 2005م وإخوان سوريا في 2004م تلك المراجعات التي اقتربت من مفردات الحداثة السياسية وضرورة التكيف معها والابتعاد عن الخطاب الوعظي الإرشادي في السياسة.

قدم العظم تجربة فكرية ثرية وديناميكية على أكثر من صعيد وليس فقط في موقفه من الفكر الديني وإنما أيضا حتى موقفه من اليسار الذي عده يسارا مرتدا، في كتابه النقد الذاتي فيما بعد الهزيمة، والذي بسببه نشب خلافه مع حركة التحرير الفلسطينية فتح، التي أسس لها مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وغادرها بعد ذلك، وقدم أيضا قراءة سجالية لكتاب الاستشراق للمفكر الفلسطيني أدوارد سعيد، وأسماه بالاستشراق والاستشراق معكوسا، كما لم يفته الخوض في الحب والحب العذري أيضا.

ما يعنينا هنا، هو ذلك المثقف النقدي الذي قدم تجربة نقدية شاملة لكثير من النظريات والأفكار، وبقى صامدا في مشواره العلمي والنقدي، ولم يتحول حسب رياح السياسة وموضة الأفكار، ككثيرين من نظرائه الذين كانت ثورات الربيع العربي بالنسبة لهم، بمثابة معمل اختبار لأفكارهم ومقولاتهم ونقولاتهم، وهو ما يضعنا أمام لحظة مكاشفة حقيقية للغوص في تعريف المثقف ومدى إيمانه بمقولاته ونقولاته معا.

بالفعل مثل الربيع العربي وثوراته التي أطلق عليها العظم مقولته "العودة الربيعية للناس إلى السياسة" وأن هذه الثورات قضت على مطامح السلالات الحاكمة وإلى الأبد، وأنها تبشر بخلق مناخ سياسي أكثر ديمقراطية في المنطقة من أي وقت مضى، ودافع بذلك عن الثورة السورية التي قال أنها ثورة سواء تأسلمت أم تعلمنت، وأنها كاشف أخلاقي وإنساني وثقافي لكل البديهيات القديمة.

ولهذا تمايز موقفه النقدي الواضح حتى النهاية على عكس مثقفين كبار من أمثال جورج طرابيشي الذي توقف عن إبداء أي رأي حول الثورة السورية سوى الصمت بحجة إسلاميتها، عدا عن أودنيس الذي لم يخف هو الآخر انحيازه ضد ما وصفها بثورة المساجد، فيما مضى العظم في تعرية النظام السوري داعما للثورة السورية التي قال يجب أن تمضي حتى الخلاص من نظام الأقلية العلوية السياسية الحاكمة.

إن مثل هذا الثبات، في عالم الأفكار المتموج سياسيا في عالمنا العربي، بالنسبة لقامة فكرية جدلية ديناميكية كصادق جلال العظم، يجعله متفردا بين جيله، بصموده أمام لحظات الإغراء، والترهيب، وبقي كحائط صد أمام كل ذلك، بخلفياته اليسارية و العلمانية ، التي اصطف قطاع كبير جدا من جمهورها في خندق الثورات المضادة للربيع العربي، وانقلبت على كل الشعارات التي رفعتها بداية، ونادت بها من شعارات الحرية والكرامة والديمقراطية، وجعلها تقف في صف الانقلابات العسكرية واحتفت بعودة العسكر إلى مربع السياسة مرة أخرى على أشلاء رفاق الثورة ودمائهم.

ومن هنا، فليس هذا الموقف من مفكر كصادق العظم، منة منه على أمته ووطنه العربي الكبير، بقدر ما هو تسجيل موقف رسالي لحقيقة مثقف أصيل يحترم قيمه ومبادئه التي آمن بها وناضل من أجلها طويلا، ولا يمكنه خيانتها والتنازل عنها أمام أول محطة اختبار حقيقية لهذه الأفكار والقيم، رحمة الله تغشاك يا صادق جلال العظم فقد افضيت إلى رب كريم عفو غفور، وستظل نموذجاً للمثقف والرائد الذي لا يكذب أهله. 
0
التعليقات (0)