كتب

توريث الالتزام الديني.. آباء تهوى وأبناء تأبى

توريث الالتزام
توريث الالتزام
بجرأة بالغة يتصدى الكاتب المصري عبد الرحمن ضاحي في كتابه "أبناء الملتزمين.. توريث الالتزام آباء تهوى وأبناء تأبى"، لمعالجة قضية تمس بيوت المتدينين (الملتزمين)، وتلامس دواخل حياتهم، والتي غالبا ما يتحاشون طرحها على موائد النقاش العلني، لأنها تكشف عن مكامن الخلل والضعف في طبيعة تدينهم ونتاجه.

وبحسب تقدير المؤلف لتلك الحالات في أوساط المتدينين، والتي أسماها بـ"انحراف أبناء الملتزمين"، وبناء على رصده (الانطباعي) فقد تكاثرت تلك الحالات حتى باتت ظاهرة ملحوظة، مشيرا إلى أنه لا يكاد يقابل "أحدا من داخل الوسط  أو خارجه إلا ويجزم بانتشارها، وهي ظاهرة تثير الدهشة والقلق من تكرار حدوثها".

وفرارا من الوقوع في آفة التعميم، وهو ما يحتمله إطلاق المؤلف للفظ العموم في توصيفه للحالة "انحراف أبناء الملتزمين"، فإن من الضروري تقييد ذلك التوصيف بغلبة انتشار تلك الحالات وظهورها في أبناء الملتزمين، وإلا فثمة حالات مشاهدة لأبناء الملتزمين الذين استقاموا على طريق التدين، والتحقوا بدور تحفيظ القرآن الكريم، وحفظوا القرآن كاملا، أو كثيرا من أجزائه، ومن رواد المساجد المحافظين على الصلوات الخمس فيها، ولا يعرف عنهم إلا السلوك الحسن، والخلق القويم. 

ومن الملاحظ أنه حينما تثار هذه القضية (كحالات ووقائع) فإن منطق التبرير الحاضر دائما، يقوم على الفور باستدعاء حالة ابن نبي الله نوح عليه السلام، ليبرر وقوع تلك الحالات، فما دام أن ابن رسول من أولي العزم، كان كافرا ولم يستجب لدعوة أبيه، ولم يدخل في دينه، فما المستهجن في أن يكون من أبناء الملتزمين المنحرف والضال والتارك لدينه؟ 

لو كان حال الآباء الملتزمين كحال رسول الله نوح عليه السلام، في قيامه بما أمره الله به من دعوة ابنه مرارا وتكرارا، والإلحاح عليه في قبول الدين الجديد، أمام إصرار ابنه على اختيار الكفر، فإنهم يكونون بذلك قد أدوا ما أمرهم الله به، ولا تثريب عليهم، ويصح حينها القياس والاستدلال، أما إن وقع التقصير من الآباء الملتزمين في إرشاد أبنائهم وتعليمهم واختيار أحسن الأساليب لترغيبهم وجذبهم للاستقامة والتدين، فإن انحراف الأبناء حينذاك يكون نتاجا طبيعيا متوقعا، ولا وجه لاستدعاء حالة ابن نوح عليه السلام لتبرير التقصير وتسويغه.   

ما هي أسباب (الظاهرة)؟

لفت المؤلف إلى أن جيل الصحوة الإسلامية مع بدايتها الأولى في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، ومع انتشار الوعي الديني في الأرجاء، "وحين عزم هذا الجيل على الزواج ظننا، بل تيقنا أنهم سيُخرجون للأمة الإسلامية جيل النصر والتمكين الذي على يده سيكون النصر للإسلام، واستعادة أمجاده، ولكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، وجدنا أنهم أخرجوا جيلا غير المتوقع ـ إلا من رحم الله ـ جيلا سلك سبيلا أخرى غير الالتزام بالشرع...".

فما هي أسباب تلك الحالات (الظاهرة)؟ وإلى ماذا أرجعها المؤلف في سياق دراسته لجذورها، وبحثه في خلفياتها وبواعثها؟

سرد المؤلف عشرة أسباب لتلك الظاهرة، جاءت كالتالي: (الاختلال الأسري)، (اختلال النية)، (عدم الالتزام بهديه صلى الله عليه وسلم)، (الأمية التربوية)، (إهمال التربية الإيمانية المبكرة)، (إهمال التربية النفسية)، (غياب الحوار)، (القسوة)، (القدوة)، (البيئة المحيطة).. وفصل في تحليله لتلك الأسباب كيفية تأثيرها في إنتاج ظاهرة (انحراف أبناء الملتزمين). 

ما الذي يعنيه المؤلف بالاختلال الأسري؟ وكيف كان ذلك الاختلال أحد أسباب إنتاج الظاهرة؟ بما أن "العملية التربوية عملية مشتركة بين الأبوين، ونجاحها مرهون بالتعاون الناجح بين الشريكين، فلا يصلح أن يكون لكل من الأبوين خطة أو هدف لمفرده في تربية الأبناء دون إشراك الطرف الآخر، لأنه بهذا يعرض المنتج (الأبناء) للفشل، ومن أحد أسباب انحراف أبناء الملتزمين هي الاختلال الأسري، وعدم الاتفاق بين الوالدين خاصة في أمر "التزام الأبناء"..

وذكر المؤلف عدة مظاهر لهذا الاختلال، منها: "عدم اتفاق الزوجين على رؤية واحدة في تربية الأبناء من حيث الالتزام، فحين يحرص طرف كل الحرص على التزام أبنائه تجد الطرف الآخر لا يلقي لهذا الأمر بالا، وللأسف فإن هذا الطرف يكافح كفاح الخمسين في المائة، وهذا المثال يتضح في امرأة نوح حين كانت السبب في هلاك ابنها، وأثرت عليه بتربيته على غير ما جاء به سيدنا نوح". 

ومن مظاهره الأخرى (تفاوت درجة الالتزام)، و"تتضح تلك الصورة حين تجد الأب ملتزما بشرائع الله، ويحمل هم الدين، وتجد التزام الأم بشرع الله دون المستوى، أو العكس، وضعف مستوى الالتزام يتمثل في التفريط في الطاعات وارتكاب المعاصي والنواهي، كمشاهدة الأفلام والمسلسلات، مما يجعل هذا الأمر أمرا عاديا عند الطفل". 

ولكي يقدم المؤلف مقترحاته في ما يتعلق بالعلاج، تحدث عن ضرورة معرفة مكمن الداء، "ألا وهو عدم الاختيار الصائب للزوجة أو الزوج، فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل المعيار الأساسي هو الدين، فقال: "تُنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك"، مؤكدا أن هذا لا يعني "إهمال الجمال، وحسن النسب، ولكن جعل معيار الدين سابقا لتلك الصفات، وقال عليه الصلاة والسلام أيضا: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)". 

وجوابا عن سؤال: لماذا حرص النبي عليه الصلاة والسلام كل هذا الحرص على أن يكون الدين هو المعيار الرئيس للاختيار؟ أجاب المؤلف بقوله "لأنه يحرص على إقامة عملية تربوية ناجحة ومتوازنة، لا أن يبني شخصا ويهدم آخر، فحين يكون الأب والأم ملتزمين بشريعة الله، وسنة رسوله تجد البناء كاملا مكتملا..". 

في سياق تحليله للأسباب المنتجة لظاهرة انحراف أبناء الملتزمين، ذكر المؤلف ما أسماه بـ"الأمية التربوية"، والتي تعني افتقار الزوجين إلى معرفة أصول التربية وإتقان قواعد وأساليب ممارستها، وقد أشار المؤلف إلى أن "التربية فن له قواعده وله أصوله، ويجب على الوالدين تعلم ذلك كله قبل الزواج، لأن ليس كل من أنجب أصبح مربيا، ولا كل ما ألقى قصيدة أصبح شاعرا.. 

 ووفقا للكتاب فإن ما نلاقيه اليوم من فساد لأبناء الملتزمين؛ هو نتاج للأمية التربوية التي يعيشها الآباء والأمهات، فتجد من يقول "قد ربيت ابني أحسن تربية"، وعلى أرض الواقع تجد فارقا شاسعا بين الواقع والكلام، فمثله كالذي كذب كذبة وصدقها، وللأسف فإن "بضاعة الكثيرين من الآباء والأمهات مزجاة لا تسمن ولا تغني من جوع، فهي تعتمد على الخبرات الخاطئة والتعلم في الأبناء". 


وبحسب المؤلف فإن الأمية التربوية درجات، منها (سياسة الأسلوب الواحد) "وهو وضع أسلوب وطريقة موحدة لتربية كل أبنائه"، وفي هذا يقول الدكتور عبد الكريم بكار: "إن الله جعل اختلاف نفوسنا وعقولنا قريبا من اختلاف وجوهنا، وكما أن في اختلاف وجوهنا ثراء عظيما، وفوائد لا تحصى، فإن في اختلاف عقولنا ورغباتنا فوائد كثيرة، ولهذا فإن ما يصلح في التعامل مع أحد الأبناء قد لا يصلح في التعامل مع أخيه، وإن ما يرغب فيه أحد الأبناء قد يمقته الآخر".

العلاج والحلول

حرص المؤلف على تفصيل القول في العلاج والحلول بعد ذكره للأسباب المنتجة للظاهرة، مشيرا إلى أن من الملتزمين من يشغل نفسه في برامج تربوية مكثفة خارج بيته، في المساجد ودور القرآن الكريم، والمنتديات ومختلف المناشط التربوية، لكنه يبخل على أهل بيته وأولاده بأي جهد يُذكر في تعليمهم وتربيتهم وتعاهدهم ومتابعتهم، فلماذا يحرم الملتزمون أهل بيوتهم من ذلك الفضل العظيم؟ ولماذا لا يحرصون على العطاء الدعوي والتربوي كما يحرصون عليه خارج بيوتهم؟

يركز الكتاب كثيرا على أساليب تربية الأبناء، وكيفية تنشئتهم منذ الصغر على الالتزام الديني، آخذا بالاعتبار أهمية التربية النفسية، والتي تعد من أهم الأسلحة التي يفتقدها الأبوان في التأثير على أبنائهم بالرغم من سهولة استخدامه وفعالية نتائجه، ويرى المؤلف أن "الكثيرين من الملتزمين مهملون لهذا الجانب بشدة، ما ينفر الأولاد من الالتزام بالشرع التي هي في ذهنه "أوامر والده" ليس إلا". 

يحث المؤلف الآباء على ضرورة استخدام أسلوب "التشجيع"، لأن انعدامه خطأ جسيم في تربية الأبناء، فالتشجيع مثله كمثل الوقود للسيارة، لا تسير إلا به، كذلك التشجيع بالنسبة للأبناء، فهو يعطيهم حافزا على إخراج أفضل ما عندهم من طاقات، ويعطيها استمرارية، ومن الأمثلة التي يضربها لانعدام تشجيع الوالدين لأبنائهما، مقابلة ما يقوم به الأبناء من الطاعات، أو التخلق بالأخلاق الحسنة، كطاعة الوالدين وتنفيذ طلباتهما، بالبرود والفتور، وغالبا ما يأتي الرد جافا مليئا بالإحباط مثل قولهم "هذا أصلا واجب عليك"، "وما أتيت بجديد"، في الوقت الذي "يتلهف الولد لكلمة ثناء تروي ظمأ نفسيته". 

واهتم المؤلف في معرض ذكره للحلول والعلاج، بإبراز نجاعة التربية بالإقناع، بعيدا عن كل ممارسات الإكراه والإجبار، وهو السلوك السائد في غالب أوساط الملتزمين، فلا يعرفون سبيلا لتربية أبنائهم إلا عن طريق الأوامر، المشفوعة بالإكراه والإجبار، من غير أن يبذلوا جهدا في إقناعهم بما يريدونه منهم، وسلوك أساليب الترغيب والتشجيع والتحفيز، ما ينتج حالات مشوهة من تدين الأبناء، يغلب عليها التصنع وربما إظهار ما يحبه الأب ويرغب فيه، من غير قناعة ذاتية داخلية، وهو ما يسبب ردة فعل عكسية في غالب الأحيان. 

ومما اعتنى به الكتاب، تأثير التربية بالقدوة على الأبناء، فسلوكيات الأب وممارساته مكشوفة أمام الأبناء تماما، فما يقولوه الوالدان ويفعلانه ينطبع في أذهان الأبناء، أكثر مما يقال لهما، ومما يؤثر سلبا في حياة الأبناء، وجود بعض مظاهر الانفصام في حياة الوالدين، بين التوجيه النظري، والممارسة العملية، فكيف سيكون الأبن صادقا، وهو يستمع إلى والده يكذب أمامه، وكذلك حال الأم وهو تنصح أبناءها بالبعد عن الغيبة والنميمة، ثم يستمعون إليها وهي غارقة في تلك القصص والحكايات.

أبناء الملتزمين دينيا كغيرهم من أبناء الآخرين، يصلحهم ما يصلح غيرهم، ويفسدهم ما يفسد غيرهم، بيد أن الأمر الطبيعي المتوقع ظهور التزام الآباء في تربية الأبناء، فإذا أحسن الإنسان الملتزم ابتداء اختيار شريكة حياته، المشاركة له في رسالة بناء الأسرة المسلمة، بتنشئة أبنائهم نشأة إيمانية مبكرة، وقدموا لهم القدوة الحسنة، وترفقوا في تعليمهم وإرشادهم وتوجيههم، فإن نتاج ذلك سيكون طيبا مباركا في غالب الأحيان، مع احتمالية انحراف بعض أبناء الملتزمين وشرودهم عن طريق التدين والالتزام.

أما إن لم يحسن الملتزم اختيار شريكة حياته ابتداء، فتأتيه زوجة على غير طريقته ومسلكه، ما يرجح وقوع التنافر بين أهدافهما في إنشاء الأسرة وتوجيه الأبناء، مع استخدام أساليب الشدة والقسوة والإكراه في التعامل مع الأبناء وتربيتهم، وغياب أساليب التشجيع والتحفيز والرفق عن أجواء الأسرة، ومغايرة أفعال الوالدين وسلوكياتها لما يقولانه ويفعلانه أمام أبنائهما، فإن ذلك سيفضي في غالب الأحيان إلى فشل "توريث الالتزام" من الآباء للأبناء، وشيوع تلك الحالة التي وصفها الكاتب في عنوان كتابه الفرعي.. (آباء تهوى وأبناء تأبى). 
التعليقات (0)